يبدو أن الإنسان عرف بالفطرة مدى التأثير الناجع للجوع بشكل محدد على صحته، فعند الفراعنة، مثلا، كان الصوم لأيام عديدة يسبق المناسبات الدينية، وفي "إسبرطة" كان يتم تدريب النشء على التعود على الصيام لفترات طويلة، لخلق القوة عن طريق الاستغناء عن الشهوات، وكان الفايكنج "شعوب شمال أوروبا" يصومون قبل المعارك المهمة؛ من أجل أن "يقدموا للموت أجسادًا وأرواحًا طاهرة"!
وبمناسبة شهر رمضان المبارك نشرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية الشهيرة تحقيقًا مطولًا عن الصوم في الأديان السماوية، مستعرضة أشكالًا جديدة من الصيام الاستشفائي أو العلاجي، حيث انتشر هناك ما يعرف حاليا بـ"عيادات الصوم"، بعدما ثبت أن للصوم تأثيرات علاجية مؤكدة.
ومن أشهر وأقدم "عيادات الصوم" في ألمانيا، عيادة "أوتو بوخينجر"، التى تاسست عام 1919، حيث ابتكر صاحبها ما يُعرف بـ "علاج بوخينجر عن طريق الصوم"، واليوم أصبح الصوم على طريقته إحدى الطُّرق في مجال الزهد والانقطاع عن الطعام، باعتبار أن الصوم يمثّل بدايةً جديدة للروح والجسد.
وبعد أن كان ولفترة طويلة العلاج عن طريق الصوم نوعًا من التحايل على الطب، في رأي كثير من الأطباء في الغرب، أثبتت الدراسات الطبية بما لا يدع مجالاً للشك أن للصوم تأثيرات علاجية تتعدى الإزالة المؤقَّتة لأسباب المرض، وأقروا بأن التأثيرات غير المباشرة للتجويع مُشجعة؛ حيث يعود ضغط الدم إلى مستواه الطبيعي بعد أيام قليلة من الصوم بالنسبة لمرضى ضغط الدم المرتفع، كما ينعكس تقليل السعرات الحرارية الناتج عن الصوم إيجابيًا على مخزون الأنسولين بالنسبة لمرض السكر.
ففي أثناء الصوم يبدأ الجسم في استهلاك مخزون الطاقة الموجود في الجسم، وبعد يوم دون تغذية، فإن مخزون السكر في الكبد يتم استهلاكه، وعلى المدى القصير يبدأ الجسم في الاستعانة بالبروتينات، من خلال الجهاز الهضمي والعضلات، والتي تتحول إلى بناء الجلوكوز، "لاحظ هنا أنه من السُّنة أن تُفطر على تمر، وهو الذي يحتوي على كمية كبيرة من السكريات؛ لتعويض ما تم استهلاكه".
ومع بداية الصوم يُصبح الجسم في حالة استعداد وتنبيه، بسبب إفراز هرمونات القلق والتوتر، مثل الأدرينالين والكرتيزول، وبعد عدة أيام من الصوم، يصبح المخ في حالة جيدة جدًا من سمو المشاعر والتركيز، ويُرجع الأطباء هذه الحالة الطيبة للمخ إلى هرمون "سيروتوين"، أو هرمون السعادة، والذي يُصبح متاحًا لفترة أطول بسبب الصوم لفترة طويلة، ويؤثر ذلك في زيادة تأثير مضادات الاكتئاب.
وبعد 20 عامًا من بدء التجارب الخاصة بالصوم على حيوانات التجارب، كتب الباحث في علوم الشيخوخة ريتشارد فايندورش في مجلة "ساينس" العلمية عام 2009 قائلا: "إن تقليل السعرات الحرارية يكبح الشيخوخة، كما يُقلل من مخاطر الإصابة بأمراض، مثل السكر والسرطان وأمراض القلب والدورة الدموية وضمور المخ".
وحاليًا يسعى العلماء إلى تخفيف معاناة ثلاث فئات من المرضى عبر تقليل السعرات الحرارية، عن طريق الصوم، وهم مرضى الروماتيزم، والمرضى الذين يعانون آلامًا مزمنة، ومرضى السمنة المُفرطة، وهم الذين يعانون من مشكلات في ضغط الدم ومستوى السكر.
وهذه الأيام يخضع أكثر من ألف متطوع ممن يسمون أنفسهم "فنانو الجوع"، والتابعين لجمعية تقليل السعرات الحرارية، لتجارب يجريها قسم طب الشيخوخة وعلم التغذية في كلية الطب في جامعة واشنطن لمعرفة ما إذا كانت نظرية أن الصوم يُطيل العمر تسري أيضا على البشر.
جائزة نوبل في الطب لعام 2016 التي نالها العالم الياباني بورشينورى اوسومي، ارتبطت تمامًا بفوائد الصوم.. كيف ذلك؟
حين يجوع جسد الإنسان يأكل نفسه أو يقوم بعملية تنظيف لنفسه بإزالة كل الخلايا السرطانية وخلايا الشيخوخة والزهايمر، ويحافظ على شبابه ويحارب أمراض السكر والضغط والقلب، عن طريق تكوين بروتينات خاصة لا تتكون إلا تحت ظروف معينة، وعندما يصنعها الجسم تتجمع بشكل انتقائي حول الخلايا الميتة والسرطانية والمريضة وتحللها وتعيدها إلى صورة يستفيد منها الجسم.
وهذا ما يشبه إلى حد كبير عملية تدوير المخلفات..
وتوصل العالم عبر دراسات طويلة ومتخصصة إلى أن هذه العملية تحتاج إلى ظروف غير تقليدية تُجبر الجسم على تلك العملية، وتتمثل هذه الظروف في امتناع الإنسان عن الطعام والشراب لمدة لا تقل عن ٨ ساعات ولا تزيد على ١٦ ساعة، وأن يتحرك الإنسان في تلك الفترة ويمارس حياته الطبيعية، وأن تتكرر هذه العملية لفترة من الزمن للوصول بالجسم لأقصى استفادة وحتى لا تعطي فرصة لتلك الخلايا السرطانية أن تنشط من جديد.
ونصحت الدراسة بعمل "تجويع" أو ممارسة الجوع والعطش يومين أو ثلاثة أسبوعيًا من ٨ إلى ١٦ ساعة.
أليس صيام رمضان هو الحل الأمثل لمثل ذلك التأثير المفيد للجسم.
خلاصة القول أن فوائد الصيام أكثر من أن تحصى، لكن القيمة الأعظم للصيام أنه الركن الرابع من أركان الإسلام وفريضة من أجل فرائضه..
فلا حجة بعد كل ذلك لـ"متنطع" أو "مجترئ" على ثوابت الدين أن يرى برؤيته القاصرة والمُغرضة أنه لا حكمة من الصوم سوى أنه "أمر سيادي"، بل (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).