سنتناول كل يوم من أيام شهر رمضان الكريم شخصية إسلامية لها باع طويل في صنع التاريخ الإسلامي.. وشخصية اليوم هي الجزء الثاني والأخير من عثمان بن عفان (ذوالنورين).. الرجل الذي استحت منه الملائكة!
أرسل عثمان إلى حفصة أن ترسل بالصحف لنسخها في المصاحف.. الفتنة تزعمها رجل يهودي يدعى (عبد الله بن سبأ) تظاهر بالإسلام ثم قاد مجموعات من ضعيفي الدين وقليلي اليقين.. لم يتعامل عثمان مع أهل الفتنة بالشدة والحزم اللازمين..غلبت على شخصية عثمان بن عفان رضي الله عنه اللين والتسامح والنأي عن سفك الدماء.. قبل استشهاده حالوا بينه وبين الصلاة في المسجد النبوي.. كل هذا وغيره ستقرأه في حوار "بوابة الأهرام" مع الدكتور محمود عبده نور أستاذ التاريخ الإسلامي، بجامعة الأزهر
وإلى نص الحوار:
** كيف جمع سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، المصحف الشريف، برغم أننا نعلم أنه جمع في صحائف أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؟
مصحف عثمان
جمع القرآن الكريم في عهد أبى بكر، كما ذكر سابقاً، من صدور الرجال ومن جريد النخل والحجارة الرقيقة، وجعله في صحف، وبقى عند أبى بكر الصديق ثم انتقلت هذه الصحف إلى عمر في خلافته، ثم إلى حفصة بعد وفاته.
وفي عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قدم حذيفة بن اليمان على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ترسل بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم ردها إليها، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم) ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.
الفتنة الكبرى
** كيف كانت مأساة الفتنة الكبرى، وكيف استشهد عثمان بن عفان رضي الله عنه؟
في تحول مأساوي، تغير حال المسلمين من الظهور على عدوهم والانتصار على أنفسهم، وهم يعيشون حياة كلها فتوحات وانتصارات مبلغين من خلال ذلك رسالة ربهم ومنفذين أوامر نبيهم وناشرين العدل ورافعين الظلم بين الناس، تغيرت هذه الحـال إلى فتنـة أو بلوى، كما أخبر رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، وعرفها التاريخ الإسلامي باسم الفتنـة الكبرى.
رجل يهودي زعيم الفتنة
وهذه الفتنة تزعمها رجل يهودي، يسمى عبد الله بن سبأ، تظاهر بالإسلام، ثم قاد مجموعات من ضعيفي الدين وقليلي اليقين، في الأمصار الإسلامية ضد الخليفة عثمان بن عفان، طاعنين عليه ومدعين شبهات ضده، حتى يسوغوا للناس قبول جريمتهم الكبرى في قتل الخليفة، وإحداث تلك الفتنة الكبرى في الأمة.
هؤلاء (هم الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم)، هؤلاء الجفاة الذين نأت طبائعهم عن رقة الدين وسماحته، وتشعبت قلوبهم من فظاظة الجاهلية وغلظتها، وراودهم الحنين إلى ما اعتادت عليه طبائعهم من قبيح الفعال وسيء الخصال، وكرهوا ما أفاء الله على بعض عباده حسدًا من عند أنفسهم.
اللين والتسامح
ومع ذلك لم يتعامل معهم الخليفة عثمان بالشدة والحزم اللازمين، نظرًا لطبيعته التي غلب عليها اللين والتسامح، والنأي عن سفك الدماء حتى وإن كان الخطر يحدق به كما حدث في هذه الفتنة، فجسد ما كان يقول به في هذه المرحلة العصيبة: (والله إن رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم).
في شوال سنة 35هـ / 655م، خرج أهل مصر في أربع فرق على أربعة أمراء، (600)، وقيل (1000)، رجل، عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى وكنانة بن بشر التجيبى، وعروة بن شيم الليثي، وأبو عمرو ابن بديل بن ورقاء الخزاعي ... إلخ.
وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب، وإنما خرجوا كالحجاج، ومعهم ابن السوداء، عبد الله بن سبأ.
وخرج أهل الكوفة في أربع فرق، وعليهم جماعة منهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي، وزياد بن النصر الحارثي، وعبد الله بن الأصم وغيرهم، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعًا عمرو بن الأصم.
وخرج أهل البصرة في أربع فرق، وعليهم حكيم بن جبلة العبدي، وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعًا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس، فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليًا، وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير، كما يروى الطبري، فدخلوا المدينة في هلال ذي القعدة سنة 35ه/ 655م.
** كيف كانت لحظات استشهاد سيدنا عثمان رضي الله عنه؟
عند انطلاق أعداء الإسلام المتظاهرين به - لإشعال نار الفتنة - وإلقاء الشبهات والشكوك حول التقي النقي الحيي الخفي الجلي الولي- رضي الله عنه- وكانت النتيجة حصار الخليفة في بيته، ومُنع الطعام والشراب عنه، بل حالوا بينه وبين الصلاة في المسجد النبوي، واجتمع 700 من الصحابة - رضي الله عنهم - يريدون الدفاع عن أمير المؤمنين لكنه - رضوان الله عليه - آثر أن يُراق دمه على أن تُراق دماء المسلمين دفاعًا عنه، فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكفَّ يده، وقال لعبيدة: من أغمد منكم سيفه، فهو حُر، وانتهى أمر هؤلاء الخوارج بالتمركز في المدينة ومحاصرة بيت الخليفة والتضييق عليه، ثم اقتحام منزله وقتله وهو صائم يقرأ القرآن، وفي الليلة التي سبقت استشهاده.
أما هو في لحظة من لحظات الخير الأخيرة وقبل الاستشهاد، أغفى الخليفة الصالح إغفاءة فرأى النبي، صلّى الله عليه وسلَّم وهو يقول له: (إن قاومت ظفرت.. وإن صبرت أفطرت عندنا الليلة يا عثمان) ومن هنا فضل عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن يفطر مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وهذا أفضل من النصر على هؤلاء القوم.
وفي رواية قال عثمان رضي الله عنه: إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم في منامي هذا فقال: (إنك شاهد معنا الجمعة)، وذلك يوم الجمعة كما قال الراوي. وعن ابن عمر- رضي الله عنهما - أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أصبح فحدَّث فقال: إني رأيت النبي صلّى الله عليه وسلَّم في المنام الليلة، فقال: (يا عثمان، أفْطِر عندنا)، فأصبح عثمان صائماً، فقُتِل من يومه، واستعد عثمان للنهاية، فأصبح صائمًا، وأعتق عشرين مملوكًا، ودعا بسراويل طويلة فلبسها خشية أن تُكشف عورته، إذا قتله السفَّاحون السفَّاكون.
وفي يوم مقتله: خرج إلى مَنْ حاصروه، فقال: السلام عليكم، فما ردَّ عليه أحد إلا أن يرد رجل في نفسه، قال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت بئر رومة من مالي فجعلت رشاي كرشى المسلمين. (فجعلت رشاي كرشى المسلمين: أي لم أتميز عنكم ولم آخذ منها جزءاً خاصاً لنفسي)، قالوا: نعم، قال: فعلامَ تمنعوني أن أشرب منها، أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فجعلته في المسجد؟ قيل: نعم.
قال: فهل علمتم أنَّ أحدًا من الناس مُنِع أن يُصلي فيه قبلي، أنشدكم الله هل سمعتم نبي الله صلّى الله عليه وسلَّم، يذكر كذا وكذا، ولكن القوم طُبِع على قلوبهم، فهم لا يعقلون، لقد انقضُّوا على الخليفة المظلوم - رضي الله عنه - فقتلوه والمصحف بين يديه حتى نضح الدم على قول الله تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). رضي الله عنك يا رفيق رسول الله "صلّى الله عليه وسلَّم"، رضي الله عنك يا من تستحي منك الملائكة، كان ذلك في ذي الحجة سنة 35هـ / 655م ، وقد بلغ أكثر من ثمانين سنة.
الدكتور محمود عبده نور أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر