ما إن طالعت عنوان الخبر الذي يشير إلى أن مصر تعمل على إنشاء "فايسبوك مصري" حتى شعرت بدوخة مصحوبة بزغللة ولا تخلو من بعض الدغدغة.
ولأنني لست ممن ينتهجون نهج الهبد والرزع دون ترو أو قبل التمحيص والتفحيص والتدقيق، فإنني بذلت قصارى الجهد كي أمنع نفسي من إصدار الأحكام على عملية الإنشاء الجارية، أو إطلاق التقييمات حول المشروع العنكبوتي الذي نحن مقبلون عليه!
لكن جهدي خار، ومحاولاتي تبددت في هواء الدهشة والصدمة، التصريح القنبلة الصادر عن وزير الاتصالات المهندس ياسر القاضي يشير إلى أن مصر سيكون لديها "فايسبوك مصري" خاص بها قريبًا، هكذا قالت العناوين وأشارت المانشيتات.
أما قراءة الخبر فتشير إلى جزئيتين مختلفتين: الأولى أن مصر خطت خطوات على طريق إنشاء وسائل تواصل مجتمعية مصرية خالصة، والثانية هي أن مصر يجب أن تكون لديها القدرة على حماية البيانات والمواطنين واستقرار الدولة!
وفي سياق لا يمكن إلا أن يكون متصلًا، قال السيد الوزير، إننا انتهينا من مشروع جرائم المعلومات الإلكترونية؛ وذلك بالتنسيق مع وزارة العدل لمكافحة الإرهاب وحماية بيانات المواطنين، وعدم استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كمنابر لنشر الفكر المتطرف.
وبمناسبة الفكر المتطرف، تجدر الإشارة إلى أن جذور وملامح ومعالم وأمارات الفكر المتطرف يتم دسها على مدار الساعة في برامج تليفزيونية وإذاعية ومقالات صحفية تبدو مظهريًا وكأنها تنويرية تقدمية حداثية، لكنها تبث سمومًا انغلاقية تخترق الأوصال والمشاعر المخترقة أصلًا منذ الثمانينيات.
إلا أن الدس في البث الدائر ليس موضوعنا في هذا المقال، والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل مصر بصدد إطلاق "فايسبوك مصري" من الألف إلى الياء؟ وهل هذا يجوز؟ أي هل سيسمح السيد "مارك زوكربيرج" بأن يطلق أحدهم مشروعًا أو فكرة من بنات أفكاره وينسبها لنفسه؛ حتى لو كان المحتوى مختلفًا؟ أم أن الإطلاق الجديد المزمع يتصل بقواعد وأسس "تأمين" جديدة خاصة بـ"فايسبوك"؛ وذلك لحماية المواطنين والدولة؟ وإذا كان هذا هو المقصود بـ"فايسبوك مصري" ، فقد وجب التوضيح من قبل وزارة الاتصالات.
الجميع يعرف أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت مصدرًا لصداع الكثير من الدول، الغربي منها والشرقي، الديمقراطي منها وغيره، والمسألة لم تعد حريات مطلقة، وإبداعات دون قيود، وشجب وتنديد لكل من يتجرأ على مساحات العنكبوت المفتوحة.
بل إن الدول الغربية حين لدغها الحنش، وذاقت مرارة الأخبار الكاذبة، والحسابات الوهمية، وتحويل مسارات الانتخابات من هذه إلى هذا، ومن هؤلاء إلى أولئك، وتهديد أمن المواطنين بتجنيد الشباب في صفوف مقاتلي "داعش"، وأبناء عمومهم من الجماعات الدموية تخلت عن شعار "الحريات المطلقة" دون ضابط أو رابط. وصرنا نسمع عبارات مثل "الحرية على الإنترنت لكن دون تجاوز" و"حماية استقرار الدول وأمنها ممن يسيئون استخدام الإنترنت".
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تحدث الرئيس السابق أوباما في شهر ديسمبر الماضي عبر لقاء عقده معه الأمير هاري لبرنامج "تودي" الذي تبثه القناة الرابعة في هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي" أن من ضمن مخاطر الإنترنت أن الناس يعيشون في واقع افتراضي مختلف تمامًا عن الواقع، وأن الناس قد يتقوقعون فقط في إطار المعلومات التي تنحاز إليهم.
وتحدث الرئيس الأمريكي السابق عن "الاستخدام غير المسئول لمواقع التواصل الاجتماعي"، مؤكدًا مرارًا وتكرارًا أن ما يهم هو ألّا تفضي هذه الفضاءات الافتراضية إلى تفتيت وتجزيء المجتمع.
مثل هذه العبارات والآراء فيما يختص بالشبكة العنكبوتية لم تكن على بال أو خاطر الكثير من الدول الغربية قبل عامين أو ثلاثة، وفي الوقت الذي كانت دول شرق أوسطية يجري تفتيتها وتجزئتها والعبث بها؛ بمساعدة محورية من قبل مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الأذرع الحقوقية لهذه الدول الغربية تدافع عن حريات الإنترنت غير المحدودة، وحق الجهات والجماعات والجبهات المختلفة في "حرية الإبداع"، لم تر وقتها في تجنيد "داعش وأبناء عمومها" للشباب، ونشر الأفكار المسمومة المرتدية جلباب الدين، وفرض أنظمة دينية على شعوب رافضة له إلا "حرية تعبير". لكن "حرية التعبير" اليوم تحولت إلى "حرية مشروطة".
ونعود إلى "فايسبوك المصري"؛ حيث أسئلة تدور حول المقصود به؛ فإن كان المقصود تقييدًا ومراقبة لمروجي الأخبار الكاذبة، فلنناقش ذلك، ونتبع ما اتعبه الأولون من أساليب حماية وقواعد ضمان لشعوبهم، ومن قبلها حكوماتهم وأنظمتهم، ولكن بـ"شياكة"؛ وإن كان المقصود "فايسبوك مصري" من الألف إلى الياء، فلنسمه إسمًا آخر؛ لأنه سيكون كيانًا مختلفًا عن بنات أفكار "زوكربيرج"، أما لو كان متطابقًا مع "فايسبوك زوكربيرج"؛ ولكن بمحتوى مصري صميم وأساليب ضبط وربط مصرية أصيلة، فنحن في ورطة.