قال د. طه زيادة إن لديه قناعة كبيرة بأن كل نص ينادي مترجمه في التوقيت الذي يتراءى له، فهناك نصوص أكثر حظًا من أخرى، فتظهر ترجمتها جيدة وتحظى باحتفاء كبير وقراءة واسعة من جمهور شغوف. ومن المقرر أن يصدر خلال ديسمبر الجاري عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، الترجمة العربية لكتاب "رحلة إلى مصر وسوريا وفلسطين" للكاتب الإسباني "إيمليو جارثيا جوميث"، ومن ترجمة د.طه زيادة. يضيف طه زيادة عن الكتاب الجديد: من هذا المنطلق عندما يحين أوان ترجمة نص، تتضافر جميع الظروف لكي يرى النص النور، إيميليو جارثيا جوميث، مستعرب إسباني كبير، كان لاكتشافه في خرجات الموشحات الأندلسية جذور الشعر الغنائي الأوروبي، صدى ودوي غير مسار تاريخ الأدب في القارة العجوز، وحفر له مكانة لا ينازعه فيها أحد على الإطلاق، يشبه العثور على نص يكشف بداياته وانطلاق مشواره مع عالم الاستعراب من القاهرة المحروسة، وانطباعاته عنها، والشرارة التي نتجت عن التقاء المستعرب الكبير بجذوره الضاربة في عمق الحضارة الأندلسية، أشبه بالعثور على كنز ثمين، وفرصة لا يمكن تفويتها. يستطرد زيادة : كان كتاب "الرحلة إلى مصر وسوريا وفلسطين، 1927- 1928م، مراسلات إيميليو جارثيا جوميث مع معلمه ميجل آسين بالاثيوس"، موجودا ضمن مقتنيات مكتبة القسم الثقافي بالسفارة الإسبانية بالقاهرة، فاستأذنت المستشارة الثقافية المستنيرة، مونتسرات مومان في استعارته بغرض الترجمة، دون التفكير في الخطوة التالية، فرحبت بكل سرور، وبعد الانتهاء من النص الشيق وتوثيقه، تصادف الإعلان عن جائزة للترجمة تنظمها السفارة الإسبانية بالتعاون مع المركز القومي للترجمة وقسم اللغة الإسبانية بكلية الألسن جامعة عين شمس، في حقيقة الأمر لم أكن اتوقع الفوز بالجائزة، إلا أن حيثيات قرار لجنة التحكيم فاجأتني في الحقيقة، حيث أشادت بالترجمة وجهد التوثيق المبذول فيها، سواء التاريخي أو الفوتوغرافي للأماكن والمخطوطات وأسماء الشخصيات التي التقى بها كاتب الرسائل خلال رحلته الأولى إلى الشرق، أوضحت لجنة التحكيم أن الجائزة تقدم لها سبعة عشر عملا مترجما، استبعدت ستا منها لكونها دون المستوى، وانحصرت المنافسة بين الأعمال المتبقية، ليستقر قرارها في النهاية على منح الجائزة لهذا العمل. وعندما حان الوقت ظهر الكتاب الآن، ضمن مطبوعات المركز القومي للترجمة، وكان هذا أيضا وفقا لشروط الجائزة. تلعب علاقة الأستاذ بتلميذه دورا محوريا في هذا الكتاب الذي ينتمي إلى أدب الرسائل؛ فكاتب الرسائل إيمليو جارثيا جوميث تبادلها مع أستاذه ميجل آسين بالاثيوس، أما جامع الرسائل خواكين بايبي بيرميخو، وصاحب فكرة نشرها عام 2007 بمناسبة مرور ثمان عقود على رحلة جارثيا جوميث الأولى إلى الشرق، فكان أحد تلاميذ المستعرب الكبير، أما مترجم الرسائل ومحقق تفاصيلها فيشرف بإهداء الترجمة إلى أستاذه ومعلمه الأستاذ الدكتور محمود علي مكي، أبو الدراسات الإسبانية في مصر، والذي بالمصادفة كان أيضا على علاقة بكاتب الرسائل حيث كان المشرف على رسالته لنيل الدكتوراه من إسبانيا في الخمسينيات. تشبه علاقة جارثيا جوميث بأستاذه علاقة الابن بأبيه والحواري برسوله، وهو ما يقره ويعترف به جارثيا جوميث، حيث يؤكد أنه لا يستطيع القيام بشيء دون مشورته، كما يفخر بأن أفضل لقب يمكن أن يحمله مهما بلغت مكانته العلمية هو لقب تلميذ ميجل آسين بالاثيو،. يظهر ذلك بوضوح أيضا في آرائه النقدية، لكل ما تقع عليه عيناه، واختياره لأبحاثه ودراساته وتطور ترجمات، في الوقت نفسه لا يجد أي غضاضة في الاعتراف له في مواقف أخرى، برجوعه عن آرائه أو تصويبها كما يتضح في أكثر من موضع من الرسائل. تكشف الرسائل عن جوانب من شخصية كاتبها، منها على سبيل المثال الشغف الدائم بالبحث وطلب العلم، والنهم الذي لا يشبع للمعرفة والفهم والاستيعاب، ليس فقط الكامن في الكتب والمخطوطات، بل للواقع الذي يحيط به، كما توضح للقارئ خصالا لا يتحلى بها سوى عالم حقيقي، وهي الصدق والتواضع. تعتبر هذه الرسائل إلى حد كبير شهادة على عصر كان فيه الشرق في حالة فوران وتشكل، فالجامعة المصرية لم يمض على تأسيسها سوى عشرين عاما، والصراع محتدم بين تيار الإصلاح والتحديث بزعامة طه حسين، وبين جامعة الأزهر العريقة، وبين دعاة التمدن والتأورب - إن جاز التعبير-، وبين دعاة الحفاظ على الهوية، بين الإسلام التقليدي المدعوم من المؤسسة الرسمية، وبين الدين الشعبي الذي تغلب عليه مظاهر التصوف بطرقها المختلفة الشاذلية والخليلية وغيرها، والإسلام الحضري لدعاة التمدن؛ القاهرة الحديثة بشوارعها ومكتباتها ومؤسساتها، والقاهرة الشعبية بحاراتها وأزقتها وسكانها المحليين، ومن وراء ذلك العمارة الإسلامية والآثار الفرعونية. ربما تحير كاتب الرسائل في البداية وتبنى مواقفا، عدل عنها بعد ذلك، فهذا الشرق ليس الذي سمع به أو رآه في أي صورة أو قرأ عنه، بل الشرق الحقيقي حيث تتلاقى المتناقضات وتتعايش الأضداد في صراع لا يحسم أبدا ولا يتوقف مطلقا، وربما كان هذا سر سحره وجاذبيته وثرائه بالنسبة للمستشرق خاصة لو كان شابا مثل جارثيا جوميث والذي لم يكف عن التردد على مصر منذ تلك الفترة حيث زارها عدة مرات خلال أعوام 1957 و 1985 و 2005. يكشف الكتاب أيضا عن حالة مستمرة من الميل إلى النقد الذاتي لا تخل من الاعتزاز بالهوية، مع السعي الدائم للوصول إلى جذور الثقافة والتاريخ، ومن هنا تأتي أهمية ترجمة هذا العمل، لهذا حرص المترجم من أجل تحقيق النص وتوثيقه في بيئته وظروفه التاريخية والسياسية والاجتماعية على إضافة تعليقات آخر الصفحات لتوضيح الأماكن والشخصيات والكتب والمخطوطات الواردة في النص - وهي ليست بالقليلة-، وأحيانا بعض العادات والتقاليد والمواقف التي تعرض لها صاحب الرسائل أثناء رحلته إلى مصر، من أجل فك الشفرة الخاصة التي تحتويها هذه التجربة الفريدة. بعد هذه التجربة الفريدة، اتيح لي مؤخرا الحصول على منحة في مؤسسة بيت المترجم، ببلدة تاراثونا التابعة لإقليم أراجون، شمال شرق إسبانيا، حيث انتهيت من ترجمة رواية إدواردو مندوثا، الأديب الإسباني الشهير "شجار قطط" الحاصلة على جائزة بلانيتا العريقة عام 2010م، وتتناول في إطار بوليسي ساخر، تطورات الأوضاع السياسية في ربيع عام 1936م، قبل بضعة شهور من اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، والظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت لوقوع تلك الكارثة. وقال طه زيادة عن خططه المستقبلية مع الترجمة : بين يدي في الوقت الراهن عدة نصوص لكتاب مهمين مثل إدواردو جاليانو، وكارلوس فوينتس، وخوان خيلمان، أسعى للانتهاء منها بحلول 2018م، و أعتقد أنها سوف تكون إضافة جيدة للترجمات الأدبية والسياسية والنقدية من الإسبانية إلى العربية. الجدير بالذكر أن طه أحمد زيادة، من مواليد القاهرة عم 1971م، صحفي ومترجم عن الإسبانية، تخرج في قسم اللغة الإسبانية بكلية الآداب جامعة القاهرة، 1992م، و نشر نصوصا مترجمة من الإسبانية في العديد من المجلات والصحف المصرية منذ كان طالبا في الجامعة، من بينها صباح الخير وروزاليوسف وأخبار الأدب، الأهرام العربي، البديل، القبس الكويتية وموقع 24 الإماراتي، عمل مترجما صحفيا في وكالة الأنباء الإسبانية (إفي) وسفارتي بيرو وإسبانيا، ونشر له عن الهيئة العامة للكتاب "أساطير شعبية من آسيا" 2006م، وهي مجموعة من الأساطير والحكايات الفلكلورية لأكثر من 10 دول في جنوب شرق آسيا؛ الآتي من الزمان أسوأ، رفائيل سانشيث فرلوسيو، عن (المركز القومي للترجمة) 2015؛ كما ينشر لأول مرة بالعربية خلال العام المقبل، مختارات من أعمال أنطونيو ماتشادو (تحت الطبع عن دار كتب خان)؛ والعالم بالمقلوب، إدواردو جاليانو (دار كتب خان).