Close ad

"سيلفي مع الموت".. أن تقول ما قيل

1-12-2017 | 05:31
سيلفي مع الموت أن تقول ما قيل سيلفي مع الموت
محمد فايز جاد

تعد تجربة الفنانة نشوى مصطفى في العرض المسرحي "سيلفي مع الموت" الذي تقدمه حاليًا على مسرح "ميامي" تجربة جريئة، فتقديم "مونودراما" يعد مجازفة لعدم اعتياد طائفة كبيرة من الجمهور المصري هذا النوع من المسرحية الذي يقوم على الممثل الواحد، لذلك فالخروج بهذا النوع من دائرة مهرجانات المسرح التجريبي وتجارب الشباب والهواة يعد مقدمة جيدة لتشجيع المزيد من التجارب في هذا الاتجاه، حيث تبدو مقارنة مساحة انتشار هذا الفن في مسارحنا المصرية بمثيلتها في المسارح الأمريكية أو الأوروبية بشكل عام مقارنة غير معقولة.

موضوعات مقترحة

تواجه "المونودراما" إشكالية تتعلق بمسوغ وجودها أساسًا من حيث كونها مخالفة – بالنسبة لبعض النقاد وطائفة من الجمهور- لطبيعة المسرح القائم على الجماعية، ولكنها على الجانب الآخر رسخت أقدامها كفن يستطيع الغوص في النفس البشرية مستخرجًا صراعاتها وتناقضاتها الداخلية، وذلك يفرض تحديًا أمام النص يتمثل في القدرة على هذا الغوص، مع مراعاة إضفاء حيوية على النص بما لا يوقعه في خطأ الخطابية المباشرة.

هذا التحدي في "سيلفي مع الموت"، تأليف نشوى مصطفى كذلك، يتزايد بشكل كبير، حيث يفرض موضوعه، الذي من المفترض أن يدور حول الموت أيًا كانت زاوية التناول، يفرض على المتلقي مجموعة من التصورات والتوقعات ينبغي للنص أن يتجاوزها، بخاصة وأننا أمام موضوع يشغل حيزًا عظيمًا في الفكر البشري، وتناوله الأدب بصور شتى، تضع أمام عيني المؤلف – والجمهور بالضرورة- صورة لأبيات الشاعر الراحل محمود درويش:

"لكن قيل ما سأقول
يسبقني غد ماض
. . .
ربما نسي الأوائل وصف شيء
ما لأوقظ فيه عاطفة وحسًا".

يبدأ "سيلفي مع الموت" مستعينًا بتقنية الفيديو القابع في الخلفية الذي يصور البطلة تمضي في ممر كأنه سرداب، مظلم إلى حد كبير، تبدو تائهة تكتسي ملامحها غلالة من الفزع، كأنها تبحث عن مخرج، ثم تخرج البطلة من فتحة في مستطيل خشبي على المسرح لتبدأ بالحديث معلنة عن كونها غير قادرة على تذكر اسمها أو من أين أتت.

يستعين المخرج بديكور بسيط للغاية، عبارة عن طاولة وكرسي في يمين المسرح، وكرسيين متجاورين بشكل عكسي عن يسار المسرح، مع اللجوء إلى الحيل المسرحية المعتادة في المونودراما مثل العرائس المربوطة بخيوط تتدلي من سقف المسرح، التي تشتبك البطلة معها أثناء العرض.

تبدو منذ بداية العرض محاولة من المؤلفة ومخرج العرض لكسر هذه الحالة من الفردية في الاستهلال الذي تحاول فيه البطلة التعرف إلى نفسها، والتعبير عنها بطريقة تقترب مما يعرف بالسيكودراما، تتراوح بين النبرة الهادئة الخائفة والمذعورة أحيانًا، وبين نبرة عالية قاسية وصوت أجش، متواصلة خلال ذلك مع الجمهور بإلقاء بعض الاتهامات على أفراد من المشاهدين، أو بالتوجه نحوهم بالسؤال عن هويتها، في إدراك لطبيعة المونودراما وضرورة كسر العزلة التي تقيمها الفردية.

يبدو من خلال أجواء البداية أن البطلة إما ماتت لتوها، وإما هي في مرحلة مقبلة على الموت، وهي في هذه المرحلة تبدأ بالتساؤل حول هويتها، اسمها ومن أين أتت، ثم تنتقل إلى حديث داخلي محاولة التعرف إلى نفسها من خلال بعض الذكريات التي تكشف/تكتشف فيها بعضًا من التناقضات داخل ذاتها، وذلك بعد مقدمة تتساءل فيها حول جدوى الصراعات بين البشر رغم أن الجميع يسيرون في طريق ينتهي بحائط، كما تقول البطلة.

يتخذ النص في هذه المرحلة طريقًا تقوم على استعراض حياة البطلة والتساؤل حول جدواها، وحول ما إذا كانت قد عاشت حياة أصلًا تستحق أن توصف بالحياة، وهو الأمر الذي يدفع بالموت إلى الخلفية نسبيًا، ليصبح السؤال حول جدوى الحياة التي نعيشها ومدى استحقاقها لأن توصف بأنها حياة.

حتى هنا يبدو العرض كوميديًا بشكل كبير، باستثناء البداية المتوترة، يستدعي بعض "الإفيهات" المتداولة حاليًا، مع تقاطع مع حياة البطلة الشخصية والتناقضات في داخلها.

غير أن العرض بعد ذلك يتخذ طريقًا أخرى، تحديدًا حين تبدأ البطلة في توجيه رسالة إلى الموت، منتقلة من العامية إلى فصحى بدأت ثقيلة، مثقلة بأخطاء لغوية جمة. هذا الخطاب الذي توجهه البطلة قاعدة في مواجهة المتفرجين يطرح تساؤلًا حول مفهوم الموت، أو بالأحرى وجهة النظر، والزاوية التي ترى منها الكاتبة/البطلة الموت.

من المعروف عن الشخصية في المونودراما أنها شخصية أقرب إلى شخصية السيكودراما، شخصية مضطربة ومشوشة تؤدي نوعًا من التنقيب داخل شخصيتها يتخذ بعدًا سيرياليًا يتكئ على الهذيان واستدعاء الأفكار غير المفككة، وبطريقة تبدو غير واعية في بعض الأحيان، ولكن خطاب البطلة الموجه للموت يدفع للتساؤل حول ما إذا كان هذا الاضطراب في شخصية البطلة – وهو ضرورة فنية- أم أنه اضطراب في طرح المؤلف نفسه وفي رؤيته بشكل عام، ورؤيته للموت في النص خاصة.

في حديثها إلى الموت تأخذ البطلة في البداية نظرة شخصية إلى الموت، محدثة إياه عن حياتها في إطار أقرب للتصور الديني والشعبي في آن للموت، تحدثه عن بعض خطاياها والعيوب في شخصيتها، وكأنه تساؤل حول مدى الاستعداد من الناحية الدينية والخلقية للموت بمفهوم الثواب والعقاب بعد الموت.

بغض النظر عن مدى تقليدية هذه الصورة، تقحم الكاتبة حوارًا مع الموت حول حبها لأشياء تبدو لطائفة من الناس – سنعرف فيما بعد من هذه الطائفة- متناقضة، فهي ترتدي "الحجاب" حين تعتمر، وترتدي لباس البحر على الشاطئ، وغيرها من الصور التي تبدو متسقة مع الصورة التقليدية لما يعرف بـ"الوسطية" وهي الصورة التي اتكأت عليها غالبية الأعمال الموجهة ضد التطرف الديني – الآن عرفنا هذه الطائفة- في تصوير الشخص المتدين الوسطي الذي يجمع بين حب الحياة وبين التدين العميق.

غير أن الأكثر إثارة للتعجب في هذا السياق هو استدعاؤها للرقص بصفته النموذج المعروف لحب الحياة، وبغض النظر أيضًا عن نمطية هذه الصورة، فإن المثير للتساؤل هو حديث الشخصية عن حبها للرقص حين تغلق باب غرفتها عليها بعيدًا عن التقاليد كما تقول، والسؤال هنا: عما تعبر هذه الصورة لسيدة تغلق بابها عليها وترقص؟ وأين الابتعاد عن التقاليد في غرفة مغلقة؟ المعتاد أن هذه الصورة تستدعى لدى التعبير عن شخصية أصولية متطرفة تعاني صراعًا نفسيًا – فيلم "الشيخ جاكسون" لعمرو سلامة نموذجًا.

هذه إذن وجهة نظر للموت بصفته مصيرًا فرديًا، وهو المتوقع في حالة شخصية ماتت لتوها أو هي في الطريق إلى الموت، فيما يشبه حالة "الباردو"، حالة الوعي التابع للموت مباشرة. غير أننا سرعان ما نتركها إلى وجهة نظر أخرى للموت ترتبط بالأحداث الإرهابية التي تواجهها مصر خلال الفترة الأخيرة، والتي كان آخرها أحداث مسجد الروضة بالعريش التي راح ضحيتها ما يزيد على 300 شهيد، فضلًا عن 128 مصابًا.

ننتقل هنا من الموت كمصير فردي، والتساؤل حول هذا المصير – أو حتى كمصير جماعي في شكله الطبيعي- إلى الموت بصفته تابعًا للقتل الناتج عن الكراهية الناتجة بدورها عن تصورات دينية، وهو ما يدفع البطلة لتوجيه خطاب مباشر إلى الجمهور حول التصورات الدينية المتشددة، معلقة على نظرة المتطرفين للمرأة – أمر غريب لشخص ميت لتوه بخاصة وأنها لا تتحدث عن تجربة شخصية لها عانت فيها التهميش وواجهت التمييز- ثم نظرة المتطرفين للفن، ثم قتلهم للأبرياء في دور العبادة، وهو ما دفعها لاستدعاء أحداث العريش التي وقعت بعد كتابة النص بل وتقديم العرض بفترة غير قصيرة.

يبدو هذا الانتقال – التعسفي بشكل ما- ارتباكًا في النظرة للموت، من تساؤل وجودي حول أولى الحقائق الصادمة في تاريخ البشرية، وهو التساؤل الفلسفي في الأساس، والذي يتطلب إما تسامحًا معه بصفته ضرورة من ضروريات الحياة، وصورة لها وليس نقيضًا – رواية "انقطاعات الموت" للبرتغالي جوزيه ساراماجو نموذجًا- أو اعتراضًا وعداوة ناتجة عن عدم تقبل مسوغات هذا الفناء الحتمي – مسرحية "موت" للأمريكي وودي آلان نموذجًا- إلى تساؤل لا دخل للموت فيه، من حيث هو عملية تحدث بشكل آلي إلى صورة من صور القتل، يبدو الموت نفسه – كعملية وكمفهوم- غير متهم فيها من الأصل، إنما تم استدعاؤه قسرًا من قبل القتلة.

يبدو الموت غائمًا وكأنه ذهب إلى الخلفية بالفعل في تحقيق لوصف مصطفى لجوهر نصها في أحد الحوارات الصحفية حين قالت إن الموت في خلفية الصورة دائمًا أو "في خلفية الكادر" على حد وصفها، فانزوى الموت بشكل كبير في خلفية العمل خلف ركام من عدة موضوعات متزاحمة، زاحمته هو أول ما زاحمت، على عكس ما هو مفترض من كونه في بؤرة العمل.

في نهاية العرض تفتح الممثلة دفترًا أمام الجمهور يحوي صورًا لعدد من الشخصيات يربط بينها رابط واحد، وهو رحيلها عن عالمنا، من بينهم: الفنانون الراحلون محمود عبد العزيز، علاء ولي الدين، أحمد زكي، خالد صالح، والداعية الراحل الشيخ متولي الشعراوي، والطبيب والكاتب الراحل د.مصطفى محمود، وبعض شهداء القوات المسلحة في مواجهات مع الإرهابيين.

وفي الخلفية تظهر صورتهم بتقنية الفيديو وهم يتحدثون عن الموت كل حسب نظرته له، ليبدو هذا التضمين مقحمًا على العرض، وليحق لنا أن نتساءل: ما علاقة ذلك بالنص وبشخصية البطلة؟ يبدو الأمر وكأنه نوع من الكولاج لرؤى مختلفة للموت، دون ربط بينها وبين شخصية البطلة، هي فقط عرض منعزل رأت الكاتبة تضمينه نصها.

ثم ينتهي العرض نهاية أقرب ما تكون لما في ذهن المشاهد عن هذا الموضوع، تبدو الممثلة وكأنها تدفع دفعًا نحو المكان الذي خرجت للمشاهد منه، وهي تصرخ مطالبة بمهلة فهي "لم تتم صلاتها بعد". وكأن العرض يتماهى مع الصورة التقليدية للموت، الصورة التي تخطر في رأس أي عابر تسأله عما إذا كان سيموت بعد قليل، ستكون الإجابة غالبًا: سأذهب لأصلي.

يبدو العرض وكأن الكاتبة أرادت أن تتحدث في موضوعات شتى، وأرادت تضمين هذه الموضوعات كلها في نص يقدم في عرض لا يبلغ الخمسين دقيقة، فبدت وكأنها تلهث لتنجز كل هذه الموضوعات ولتلمح إلى كل منها سريعًا.

"سيلفي مع الموت" تأليف وبطولة نشوى مصطفى، موسيقى (إهداء) خالد داغر، ديكور أحمد حشيش، إيقاع حركي مناضل زعتر، وإخراج أحمد علام، من إنتاج فرقة المسرح الكوميدي التابعة للبيت الفني للمسرح.  

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة