تعدد الأبعاد والجوانب في الشخصية المصرية
1- تحتل مصر مكانا وسطا سواء من حيث الموضع أو الموقع، وسطا بين خطوط الطول والعرض وبين القارات والمحيطات حتي بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات وليس معني هذا أننا أمة نصف، ولكن بمعني أمة وسط متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق والثقافات، مما يثري الشخصية القومية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان، وهذا ماسوف نتناوله من خلال الموضع، والموقع.
أولا: موضع مصر:
1- التربة المصرية كبيئتها منقولة من منابع النيل في قلب أفريقيا إلي عتبة البحر المتوسط وتداخلت فيها خطوط العرض المتباعدة والمتفاوتة وهي تمثل في النهاية حالة نادرة من تراكب البيئات.
2- الإيراد المائي لمصر: يأتي معظمه من نهر النيل وهكذا أخذت مصر مائية الموسميات دون أن تأخذ منها مناخها القاسي أو رطوبتها.
3- الزراعة: تتميز مصر بالمحاصيل المعتدلة، حيث تجمع بين محاصيل البحر المتوسط والمدارية، حيث يمكن القول إن زراعتنا الشتوية تجعلنا في نطاق البحر المتوسط، بينما الصيفية تنقلنا إلي النطاق الموسمي.
4- مناخ مصر: يلخصه المقريزي: مصر متوسطة الدنيا سلمت من حر الأقاليم الأول والثاني ومن برد الأقاليم السادس والسابع ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواؤها وضعف حرها وخف بردها وسلم أهلها من مشاتي الأهواز ومصايف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة العربية وجرب اليمن وطواعين الشام وحمي خبير.
ثانيا: موقع مصر والحروب:
تعدد الأبعاد في موقع مصر حقيقة واضحة، فمصر حلقة وصل بين العالم المتوسطي وبين حوض النيل، كما أنها وسط بين المشرق والمغرب ولذلك نجد لمصر خمسة أبعاد أساسية وهي تتداخل فيما بينهما مثل البعد النيلي والأفريقي، هذا فضلا عن أن الأبعاد الأربعة تتداخل في الإطار العربي الكبير الذي نرجع إليه في النهاية، لأنه ليس مجرد بعد توجيهي ولكنه كتلة الجسم الأساسية وكيان وجوهر في حد ذاته ولذلك سيكون البعد العربي فصلا مستقلا لاحقا لأهميته الكبري لمصر وبذلك هناك خمسة أبعاد نعرض الآن أربعة ونخصص للبعد العربي فصلا مستقلا.
1- البعد الآسيوي
أ- برغم أن مصر في أفريقيا موقعًا، إلا أنها كانت في آسيا واقعًا، ففي علاقتها الخارجية كانت مصر القديمة آسيوية أكثر منها إفريقية؛ حيث كان للبعد الآسيوي دوره المهم في اللغة والثقافة والدين وأسهم أيضًا في تحديد لون بشرة المصريين مع البعد الإفريقي، فمن الناحية الدينية البحتة كانت مصر دائمًا طرفًا في قصة التوحيد منذ إخناتون إلى الأديان الثلاثة في فلسطين وسيناء والحجاز، فكانت لموسي قاعدة ومنطلقًا ولعيسى ملجأ ولمحمد (صلى الله عليه وسلم) هدية ومودة وطريق الإسراء والمعراج وأخذت مصر اللغة والثقافة من آسيا.
ب ـ عسكريًا: معظم حروب مصر وتحركها العسكري في آسيا، فكانت كل التحركات العسكرية الخارجية من مصر وكل معاركها التاريخية تتم على أرض آسيا من الهلال الخصيب حتى أقدام الأناضول ومشارف الفرات والجزيرة العربية واليمن وفي كثير من فترات التاريخ كانت ولاية مصر تشمل جزءًا من الشام والجزيرة العربية والأناضول كما حدث في القرن التاسع عشر.
ج ـ بالنسبة لسيناء تثير تساؤلًا جغرافيًا، هل هي تبع لآسيا أم لأفريقيا والمؤكد أنها حلقة الوصل بين آسيا وإفريقيا، كما أن علاقات مصر الخارجية آسيوية أكثر منها أفريقية كما أن الخطر الأساسي للوجود المصري يأتي من آسيا، كما أن البحر الأحمر كدهليز طويل يفضي بمصر إلي غرب الجزيرة العربية حتى اليمن وهو مكان مهم لمصر وللقناة.
2- البعد الإفريقي
أ- أرض مصر جزء من أفريقيا وكذلك النيل والسكان والحياة ومن كل ما سبق صنعت مصر الحضارة وأهدتها إلى إفريقيا والعالم.
ب- ولمصر تاريخ في احتكاك بعيد المدي مع ليبيا بالتسرب والتوطين والحملات لذلك ما أكثر ما امتد التوسع والنفوذ السياسي المصري إلى برقة أيام البطالسة والعرب وكانت مصر بوابة التعريب بالنسبة للمغرب العربي كله، واليوم يمثل أولاد على حلقة الوصل البشرية بين مصر والمغرب العربي.
ج- تداخل البعد الإفريقي والعربي وهذا يؤكد قوة العلاقة بينهما، ولقد لعبت مصر المعاصرة دورا قياديا في تحرير بلاد العرب وإفريقيا وهذا يؤكد تكاملهما وليس تعارضهما، فالوحدة الإفريقية وحدة عمل ومصالح وتضامن في المجال الدولي سياسيا واقتصاديا وحضريا ضد ضغوط الاستعمار والوحدة العربية، وحدة كيان ومصير واندماج وكلاهما يخدم الآخر، كما أن البعد النيلي يتداخل بالطبع مع الأفريقي ويكمله ويدعم كل منهما الآخر.
3- البعد النيلي
أ- منه تأتي مياه النيل، وهو لذلك بعد جوهري وأصيل في كيان مصر لم يعرف الانقطاع بل لعله زاد عمقا علي مر العصور، وهو الناحية الطبيعية بعد هيدرولوجي بالغ الخطورة لأنه أساس الوجود المصري كله ومن هنا أهميته السياسية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية لمصر ومع ذلك كانت الصحراء دائما عائقًا خطيرًا في سبيل تعميق هذا البعد النيلي وتمديده سواء غربًا أو جنوبًا ولهذا كانت حدود النفوذ المصري لاتتعدى غالبًا الشلال الثاني والثالث برغم أن النفوذ الحضاري والثقافي توغل كثيرًا حتى أثيوبيا القديمة.
ب- حضاريًا وثقافيًا صدرت مصر عناصر حضارتها وعقيدتها الفرعونية إلى الجنوب، فمصر الفرعونية وصلت إلى النوبة، وتأثرت لغتها بالمصرية ثم القبطية، وكررت مصر تصدير حضارتها إلى الجنوب مع المسيحية، ثم توطنت المسيحية، وتوطنت في النوبة إلى أن وصلت فى الحبشة إلى قمة الإشعاع الديني لمصر لتصبح الحبشة أكبر جزيرة مسيحية في إفريقيا وارتبطت الحبشة كليا بالكنيسة المصرية للآن.
ج- ومع الإسلام يأتي دور مصر من جديد، حيث لعبت مصر دورًا مهمًا في مد الإسلام ونشره وانطلق البعد النيلي في القرن التاسع مع الإمبراطورية المصرية العربية الإسلامية، حيث تعدت دول حوض النيل، وعلينا اليقظة من محاولات الاستعمار لفصل جنوب السودان.
4- البعد المتوسطي
أ- أن البحر المتوسط بعد واضح لمصر لا خلاف عليه فهو حقيقة جغرافية لأن مصر تطل عليه عبر جبهة بحرية مترامية تمثل أحد الضلوع الأربعة المحيطة بمصر، بل هو الضلع الحي الذي يتصل مباشرة بالمعمور المصري بدون صحاري، ومن هنا تأتي الأهمية.
ب- مشكلة هذا البعد أن البعض يريد تضخيمه لأسباب سياسية واستعمارية من خلال أن مصر وحضارتها جزء من حضارة البحر المتوسط وهي مستمدة من نظرية وحدة البحر المتوسط؛ مما يعني ربط مصالح وسياسات مصر بأوروبا وبالتالي تكون مصر تابعة إلي أوروبا وتنفصل عن عالمها العربي والأفريقي.
ج- الواقع أن لمصر الفرعونية علاقتها المتبادلة بكريت واليونان وروما وبعدها في العصور الإسلامية أصبح المتوسط بعدًا مهما في كيان مصر وتجارتها فكانت الإسكندرية والقاهرة موطنا دائما للتجارة مع المدن الإيطالية ومع محمد علي والتغريب المستمر ارتبطنا بشرق الحوض وغربه خاصة فرنسا وإيطاليا، ثم جاءت قناة السويس فأعادت تأكيد البعد المتوسطي وحققت عالمية مصر، ولكن الملاحظة الأساسية علي هذا البعد هو التذبذب، حيث يشتد حينا ويضعف حينًا، فهو بعد حضاري أكثر منه طبيعي واقتصادي أكثر منه بشري وهو في النهاية بعد تكميلي وهو أقل الأبعاد لمصر.
تعليق كاتب المقال:
1- يلاحظ أن فصول كتاب شخصية مصر تفسر بعضها بعضًا، بمعنى أن تعدد الأبعاد والجوانب في الشخصية المصرية أدى إلى التوسط والاعتدال في الشخصية المصرية بعيدًا عن التطرف أو السطحية، فثراء الموقع أدى لثراء الموضع والإنسان المصري.
2- يلاحظ ويحسب للقيادة المصرية الحالية اهتمامها المتزايد بالبعد المتوسطي من خلال تبادل الزيارات مع اليونان وقبرص ثم مع الاهتمام الواضح بالبحرية المصرية علي وجه الخصوص وبالطبع مع اهتمام بالقوات المسلحة بوجه عام ولكن القوات البحرية هناك تركيز واضح، وقد يرجع ذلك لظهور الغاز بكميات كبيرة في هذه المناطق والثروة تحتاج لقوة تحميها وهنا دور القوات المسلحة بوجه عام والقوات البحرية بوجه خاص، وهذا ما أكده حمدان من أهمية هذا البعد وأنه بعد اقتصادي أكثر منه بشري.
3- يلاحظ ويحسب علي سياسات مصر منذ السبعينيات إلى يونيو 2013 إهمال البعدين النيلي والإفريقي وهذا يعكسه عدد زيارات الرؤساء المصريين لهذه الدول؛ مقارنة بما حدث في العصر الناصري أو الآن؛ حيث كان هناك شبه تعمد لإهمال دول حوض النيل بوجه خاص وإفريقيا بوجه عام وهذه جريمة في حق الأمن القومي المصري.
4- نبه جمال حمدان لمحاولات الاستعمار تقسيم جنوب السودان الذي حدث نتيجة لإهمال مصر في العقود السابقة بجانب تحمل نظام السودان أيضًا مسئوليته الكبري عن هذا التقسيم، وعلينا اليقظة من تقسيم دارفور.
5- اتفاقية دول حوض النيل التي تقف في صف إثيوبيا تعكس وتؤكد الإهمال المصري السابق لهذا الملف، لأن جميع هذه الدول كانت صفًا واحدًا مع مصر في الستينيات، وفرطنا بأيدينا في أصدقائنا القدامى والله المعين.