Close ad

"داغستان بلدي" لرسول حمزاتوف.. الشعر في ثوب الرواية

6-11-2017 | 14:19
داغستان بلدي لرسول حمزاتوف الشعر في ثوب الرواية غلاف الرواية
صبحي فحماوي

إذا كان  بوشكين هو أمير الشعراء الروس، فإن رسول حمزاتوف هو ملك الشعراء الداغستانيين بلا منازع. دُهشت به لدى قراءتي كتابه "داغستان  بلدي" المكتوب عليه "رواية"، ولكنني وجدت أنه قصيدة شعر متكاملة، برغم صفحاته الخمسمائة وخمسين صفحة، من القطع الكبير، الذي يبدو على صورة  سيرة ذاتية ، أو مكتوب على نهج ألف ليلة ولية، بصفتي أومن بأن "ألف ليلة وليلة" هي رواية حداثية وأنها أم الروايات في العالم.

موضوعات مقترحة

ومما زاد يقيني بالشعرية الساحرة للكتاب، أنه كتب في صفحة 17:
"فأنا لم أكتب نثرًا على الإطلاق..."

وبهذه العجالة لن تستطيع سبر أغوار هذا الكتاب الفريد من نوعه، ولكنك تتذوق طعم رسول حمزاتوف، مجرد تذوق. قال لنا الدليل السياحي إن الإمبراطور الفرنسي لويس، لم يكن في قصر فرساي يأكل الطعام، وإنما كان يتذوقه، مارًا على صفحات المائدة، وليس جالسًا على كرسي، وذلك نظرًا لكثرته وتنوع أصنافه الشهية، وهكذا أنت، لا تستطيع بهذا الكتاب قراءة حمزاتوف، وإنما تتذوق شعره. وحتى لو كتب الناشر"دار نينوى" أنه (رواية)، ربما، ليُقبل القراء على شرائها، فإنك لا تقرأ جملة نثرية واحدة، وإنما هو شعر ساحر.

خذ مثلًا أي جملة من جمله لتشعر بكونها شعرية ساحرة:

"قبل خلق العالم بمائة عام، ولد الشاعر."، يا له كيف يصور لنا الأصل، ولكن بعقلية شاعر. وفي صفحة أخرى يقول موضحًا أصول كتابة الشعر:
"الإنسان الذي يقرر كتابة الشعر وهو لا يعرف اللغة، كالمجنون الذي يقفز إلى نهر جارف وهو لا يعرف السباحة."(ص.67) فالشعر عند رسول هو لغة، مثل السكر الممزوج، يعجنه الشاعر ويشويه ويسكبه شلالًا من الحلوى اللذيذة. الشعر ليس مجرد رص كلمات، بل هو تذوق صاحب مشاعر جياشة. يمزجها بأفكار هلامية ضبابية لتعطينا متعة التخيل، ربما لما لا يُفهم..لاحظ ما يقول هنا (ص. 57):

"من اشترى قبعة كقبعة تولستوي، أين له أن يشتري رأسًا كرأسه؟"

كلام سهل، ولكنه السهل الممتنع على الآخرين، إذ يستطيع أي منا شراء قبعة لجيفارًا أو شكسبير أو صلاح الدين الأيوبي، أو أخناتون، مثلًا، ولكن من أين له ذلك العقل والشجاعة والقدرة على التنفيذ مثل أولئك ومن مثلهم.

إن رسول حمزاتوف يفتح أذهاننا بشعره على أفكار لم تكن بحسباننا، وهذا هو دور الشاعر، الشاعر ليس ذلك الذي يكتب: "حبيبتي. أحبك. تحبينني. محبوبة" وإنما هو حمزاتوف الذي يقول مناجيًا الشمس من قمة قممه( ص. 71):

"الشمس كفيلة بأن تذيب النجوم كلها في نجم واحد، ولكنها تدع النجوم تتلألأ هي الأخرى، وليكن لكل إنسان نجمه. "

من منا فكر بهذه الفكرة المناهضة للدكتاتورية والفردية القاتلة، والتسلطية للشمس التي باستطاعتها إذابة النجوم كلها، فهي لو كانت فظة، غليظة القلب لاستطاعت أن تصهر النجوم كلها ولكنها تترك النجوم تتلألأ.، كما يقول المثل الأمريكي: "مُرّ، ودعهم يمُرُّون"، طبعًا أولئك المستدمرون، عمليًا بعكس ذلك، فهم لا يتركون أحدًا يمر دون جمركته ونهب مدخراته، ولكن الشمس تجري لمستقر لها، وتترك النجوم تلعب في الفضاء فيما هي تبرق لنا بأضوائها الساحرة "السمك مقلي.. كل، وبرّق لي" أيها الدكتاتور، كل، ودعهم يأكلون، الشمس لا تفعل هذا، حمزاتوف هنا ليس شاعرًا جماليًا فحسب، بل هو معلم، ومنبه، ورسول بحق وحقيق.

وهنا في (ص.82) من كتابه "داغستان بلدي" يقول حمزاتوف:

"أريد أن أكتب كتابًا لا تخضع فيه اللغة للقواعد، بل القواعد للغة."

فالشاعر هو الذي يطوع اللغة لتكون جميلة، وليست اللغة هي التي تطوع الشاعر، فكثير من الكلمات العربية تطيع الشعر بتعوجاتها، وتثنياتها، وخروجها عن سكة حديد قطار القواعد.

الشعر جمالية ما بعدها جمالية في رأي حمزاتوف وهو يقول (. ص. 69)

"ديوان الشعر يشبه سجادة محاكة بخيوط اللغة الأفارية المتعددة الألوان."

لاحظ التشبيهات المدهشة(ص.66):

"لتهجرن الفارس زوجته إذا لم يكن له جواد.." وفي تعبير آخر: "لتهجرن الفارس زوجته إذا لم يكن لحصانه سرج."

وهذا تعبير عن شخصية الزوج عند الداغستانيين، فالزوج يجب أن يكون معه ممتلكات، وأن يمتلك القدرة الإنفاقية، ومن ثم القدرة على قيادة الأسرة. عندها تركب الزوجة خلفه على حصان له سرج يتسع لكليهما، فيطير بها ليعيشها على سرج سابح.

عندما سألوا حمزاتوف: "ما الفرق بين الواقعية والرومنطيقية؟ أجاب (ص. 58):

"الواقعية هي حين تدعو النسر نسرًا، والرومنطيقية هي حين تدعو الديك نسرًا" إنه يعلمنا مفهوم الأدب بأسلوب شعري ساحر.

وفي عبارة هي قصيدة شعرية مختفية بداخل السطور يقول (ص94)
"حضرت انتخاب ملكة جمال اليابان..
كانت الحسناوات يمررن أمامنا الواحدة تلو الأخرى،
وكنت أقارنهن عفويًا بوحيدتي،
تلك الباقية هناك في جبال آفاريا،
فلم أجد فيهن ما في ملكتي أنا."
إنه لا يصف جمال محبوبته، ولكنه يرى أنها أجمل من ملكات جمال اليابان كلهن،
لاحظ شعرية حمزاتوف في وصف الخروج إلى الحرب، ترى فيها صورًا كثيرة لأجيال عدة، وطاقات مختلفة، وأساليب مختلفة من المحبة والدفاع عن الوطن( ص 108):

"ودع الشيخ الأشيب أخي الكبير إلى الحرب،
وأختي نزعت عنها قرطها وسوارها
كي تصنع بهما دبابة
تحمل اسمه."

وعن علاقته باللغة العربية يقول (ص538) :

"كانت اللغة العربية منتشرة في داغستان على وجه العموم، بعضهم كان يكتب بالعربية لأنه لم تكن لداغستان أبجديتها، وبعضهم لأنها كانت تبدو له أغنى وأبهى من اللغات الداغستانية.."

لاحظ ما حل بلغتنا العربية اليوم، ونحن نئدها بأيدينا، كما كان بعض العرب الجهلة يدفنون بناتهم أحياء.

ولا نختم حديثنا عن هذا الرسول الحمزاتوف بهذه الأغنية الأمنية:

لتتفتح ابنتي
قبل أن يتفتح الزهر
السواقي لما تجرِ
وها هي ضفائرها تجدّل
والثلج لما يذب
وها قد جاء الخاطبون
إذا أرادوا أن يخطبوها،
فليأتوا ببرميل عسل
وليسوقوا إليها الخراف والنعاج
لكن الفتاة لها والدها.
فلسوقوا إليه مسرعين
قطيعا من الجياد الجامحة.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة