المركزية الحضارية.. يقول الدكتور جمال حمدان في موسوعته " شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" تزداد أهمية العاصمة في حضارة الأنهار، ولا نبالغ كثيرا إذا قلنا، إن تاريخ مصر يكاد يكون هو تاريخ العاصمة، وهذا ما أكده الجبرتي، ومن قبله السيوطى، أو ابن إياس، وهذا لا يلغي دور بعض أقاليم الحدود تاريخيًا في بعض المواقف، ابتداء من المنصورة ودمياط، أيام الحملة الصليبية، إلي رشيد والإسكندرية وبورسعيد، ضد فرنسا وإنجلترا.
ولذلك تعتبر القاهرة، من أكبر مدن العالم منذ العصور الوسطي، وفي معظم تاريخها، حجم سكان القاهرة يمثل الثقل البشري الأكبر عبر التاريخ، هذا من حيث عدد السكان، ولكن عند حساب الوزن الفعلي، أو القوى البشرية الناعمة، فالقاهرة تضم ما لا يقل عن 50% من علماء وخبراء وفنانى مصر بوجه عام، وكذلك الثروة المادية، والأهم أن صمود القاهرة ضد أي غزو في التاريخ، كان يعكس صمود مصر كلها، وسقوطها يعكس سقوط مصر، وتشير إحصائيات الدولة عام 1960، إلي أن القاهرة تضم 30% من موظفي الدولة، 53% من المهندسين الزراعيين، 50%من الأطباء، 58% من المهندسين، بل ويمكن القول بأن القاهرة عاصمة العرب، ولذلك يقال إن القاهرة هي باريس الشرق الأوسط، وبالتالى، لا نغالي إذا قلنا، إن القاهرة هي عاصمة العرب غير الرسمية.
- مواجهة المركزية البيروقراطية تكون من خلال التخطيط الإقليمي، من خلال توزيع جغرافي للخدمات بعدالة بين كافة مناطق مصر من خلال عدالة جغرافية، وتوفير الخدمات الأساسية في كل مناطق مصر، لتكون جاذبة، وليست طاردة، مع إعلان القاهرة الكبري مدينة مغلقة لمدة عشر أو خمس سنوات، بمعني وقف المشروعات الجديدة المرتبطة بالتنمية، فلا يضاف وظائف جديدة سوى للصيانة والخدمات الأساسية لمحاولة تجميد الوضع الراهن، مع التوسع في كل مشروعات التنمية خارجها لجذب السكان خارجها، أما منع الهجرة فليس حلًا ديمقراطيًا ولاعمليًا.
- وإذا تأملنا مليًا فصل المركزية الحضارية عند جمال حمدان فسنجد أنه تناول بالتحليل، أكثر من قضية مهمة، منها قضية الجهاز الحكومى والإدارة في مصر، وهي سر النجاح أو التخلف، مما يؤكد، أن مشكلة مصر هي مشكلة إدارة في المقام الأول، وليس مشكلة موارد، والدليل أن الجندي المصري والجيش المصري في مرتبة متقدمة جدًا عالميًا، حيث ترتيبه عادة ما يكون ضمن أفضل 12 جيشًا في العالم، في حين أن التعليم أو الصحة خارج التصنيف، هذا دليل واضح علي أن المشكلة في الإدارة منذ سيدنا يوسف عليه السلام، وفساد الإدارة يرتبط بقضايا أخرى، مثل العدالة الاجتماعية، وتدهور التعليم والصحة.
- حاجة مصر بحكم طبيعتها لجهاز إداري كبير، وبيروقراطية في العمل، يصعب إنكارها، في ضوء العوامل البيئية الحاكمة، ولكن بالطبع يمكن الحد من مشكلاتها، وتحسينها نسبيا، والدليل أن الأجور في مصر كانت تمثل 40%، من ميزانية مصر في الملكية عام 1952%، وهي الآن أقل بكثير.
- وهذا يعني أن جغرافية مصر، في حاجة لجهاز حكومي، يعكس وجود دولة مركزية قوية قادرة علي إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، ولا يمكن وجود دولة قوية في مصر بدون حكومة مركزية قوية.
- القاهرة أو العاصمة هي مصر الصغري، ليس فقط لحجم سكانها، ولكن لأن صفوة القوى الناعمة تلجأ للقاهرة، بل إنها عاصمة العرب، حيث يجتمع فيها علماء وفنانو الوطن العربي بوجه عام، ولذلك فالمواطن المصري البسيط، عندما يكون في الصعيد أو سيناء، يقول، هينزل في مصر، ويقصد بذلك القاهرة، فهو يلخص مصر في القاهرة بعفوية بسيطة.
- الحل الأمثل لمواجهة المركزية الشديدة في العاصمة، هو عدالة توزيع الخدمات في كافة المناطق، مع خلق مناطق جذب جديدة، وبعيدة جدًا عن القاهرة الحالية، حتي لا تلتحم المدن الجديدة بالقاهرة، وتصبح أكبر عاصمة للتلوث والازدحام.
ملحوظة أخري، أصبح عدد سكان الوجه البحري 29.5 مليون نسمة، مقابل 25.8 مليون نسمة للوجة القبلي، طبقا لإحصاءات تعداد 2017، وهي تقريبا نفس النسبة المذكورة في فصل المركزية الحضارية.