Close ad

طه حسين "مع نصر حامد أبو زيد في منفاه"

27-10-2017 | 00:08
طه حسين مع نصر حامد أبو زيد في منفاه طه حسين
محمد فايز جاد

44 عامًا على رحيل عميد الأدب العربي د.طه حسين، الذي رحل عن عالمنا في 28 أكتوبر عام 1973، في هدوء فرضه عليه الصخب الدائر حوله، والذي أجبره – ربما للمرة الأولى- على ألا يكون في بؤرة الضوء، ليتوارى خلف ظلال قضية كبرى شغلت الجميع، وألهت الجميع عن وداع العميد.

موضوعات مقترحة

في ذكرى طه حسين ينشغل الوسط الثقافي المصري – سواء الرسمي ممثلًا في وزارة الثقافة أو غير الرسمي- بإقامة فعاليات لإحياء ذكرى العميد تتوقف جلها عند ملامح التجديد في فكر طه حسين وأدبه، تعرج على صراعاته الفكرية، ومحنه، وتنشغل حديثًا بالمجهول من كتاباته الذي ظهر للنور مؤخرًا سواءً "أوراق طه حسين" أو "خطبة الشيخ"، ولكن الآن، بعد مضي أربعة عقود على رحيله، ربما علينا أن نسأل: هل صارت صراعات العميد تاريخًا نسرده الآن لتذكر مرحلة من مراحل الفكر المصري، أم أن هذه الصراعات ما زالت قائمة حتى الآن وإن تغيرت الأطراف؟ هل استفدنا من طه حسين حقًا وتمثلنا أفكاره – والمفترض أن نقول تجاوزناها- أم أننا نحتفل بطه حسين شخصية مجردة؟ والسؤال الأهم: ماذا لو كان طه حسين حيًا الآن بيننا؟

أول ما يطرق ذهن الباحث والقارئ معًا من محطات طه حسين هي معركة "في الشعر الجاهلي"، أو بالأحرى محنة في الشعر الجاهلي الذي صدر عام 1926، وفتح أبواب جهنم في وجه العائد من مدينة النور، والذي يبدو – رغم مرور 90 عامًا- أنه ما زال قلب الصراع حتى الآن، والسؤال المحوري في حركة الثقافة العربية، إذا ما نحينا موضوعه – الذي قتل بحثًا وتفنيدًا- جانبًا، ونظرنا إلى منهجه.

"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن وجود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي. . ." هذه الكلمات هي التي وضعت طه حسين أمام القطار، ليواجه محنة بدأت بهجوم شرس من الأزهر، وحتى من بعض المفكرين، ولم تنته عند المحاكمة التي كان مبرر وكيل النائب العام آنذاك محمد نور لتبرئة طه حسين شهادة على فكر مستنير أنقذ العميد من محنة كادت  تقصم ظهره وتقتله في مهده كما فعلت محنة الشيخ على عبد الرازق في صاحبها بعد "الإسلام وأصول الحكم".

"ذكر القصة في القرآن لا يقتضى أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحًا. . . إن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ. . ." الكلمات السابقة ليست للدكتور طه حسين، وإنما لصاحب "المنار" الشيخ محمد عبده، ورغم أن عبده يذهب في نتيجته إلى مثل ما يذهب إليه حسين فإن الشيخ لم يلاق المصير نفسه على هذا الطرح – رغم تناوله لقصة أخطر من قصة إبراهيم وإسماعيل وهي قصة آدم وحواء.

ما السبب إذن في اختلاف الموقف من الرجلين، فاتهم أحدهما بالكفر وتعمد تشويه الدين، فيما لم يلق الآخر هذا المصير؟ ربما بإمكاننا الآن – بعد هذا التاريخ من المعارك التي انتهت نهايات متشابهة- أن السبب يكمن في المنهج، يكمن في "شك" طه حسين.

يلقي المفكر الراحل د.نصر حامد أبو زيد الضوء على هذا الاختلاف بين حسين وعبده، والذي يقوم أساسًا على المنهج والغرض، في دراسته عن إشكاليات التأويل المنشورة في كتاب "التجديد والتأويل والتحريم"، التي اختار فيها نموذجين من نماذج التأويل في مطلع فترة النهضة الفكرية المصرية، وهما الإمام محمد عبده والشيخ أمين الخولي.

ففيما كان الغرض من التأويل عند عبده – حسب أبي زيد- هو "مقصد الهداية" أو "الاهتداء بالقرآن" من خلال "فهم المراد من القول، وحكمة التشريع وحكمة التشريع في العقائد والأحكام. . ."، كان الغرض عند الخولي مختلفًا وهو "البيان" الذي يراه أبو زيد "قريب الصلة إلى حد كبير – إن لم يكن إلى حد التطابق- (بمفهوم المنهج اللغوي الفني) الذي استخدمه طه حسين. . ." هذا "المنهج اللغوي الفني" اقتضى من طه حسين الشك في كتابات الأقدمين التي تؤكد نسبة الشعر الجاهلي لأصحابه ليدرس النصوص نفسها دراسة لغوية للوقوف على مدى مصداقية نسبتها لذلك العصر، وهو الذي اقتضى كذلك ". . . أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن من كل ما قيل فيه خلوًا تمامًا . . ."

هذه الدراسة القائمة على "المنهج اللغوي" التي تأثر فيها الخولي بطه حسين، كانت أساسًا للعديد من المجهودات التالية على العميد، والتي تمخضت عن أحد الكتب التي واجهت المحنة نفسها وهو كتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم" للراحل محمد أحمد خلف الله، الذي ذهب فيه إلى ما ذهب إليه أستاذاه، ولكنه لم ينج من مصير طه حسين كما نجا عبده، فالباحث محمد أحمد خلف الله اتخذ من "المنهج الأدبي في فهم القرآن" الذي تعلمه من أستاذه أمين الخولي منهجًا في دراسته للقصص في القرآن الكريم وهو ما أقام الدنيا وأقعدها حتى تعرض التلميذ والأستاذ لعقوبات في غاية القسوة.

وبعد محمد أحمد خلف الله استمرت دعوة طه حسين عاملًا مؤثرًا على كتابات المحدثين، الذين تصدروا لدراسة القرآن دراسة حديثة، أي تقوم على دراسته كنص وفقًا للتطورات التي شهدتها العلوم اللغوية والاجتماعية. فرغم أن هذه الدراسات المحدثة تجاوزت طه حسين – لأن مناهج عصرهم وعلمه قد تجاوزت مناهج عصر الأول وعلومه- فقد ظلت دراسة فكر العميد ومنجزه ونقد هذا الفكر وهذا المنتج ركنًا أساسيًا من أركان هذه الدراسات، بوصفها مرحلة من مراحل التطور في دراسة القرآن الكريم، وبوصفها مثلت نقلة من دراسات الأقدمين القائمة على النقل ودراسة الشروح على المتون إلى دراسة علمية حقيقية استفادت من المنجز الغربي في مجال علوم اللغة والتاريخ والاجتماع. ولكن مصير أولئك الدارسين المحدثين لم يكن بأفضل من مصير الأستاذ الأول.

المفكر الراحل د.نصر حامد أبو زيد الذي بدأ مسيرته الأكاديمية بالبحث في منهج التأويل عند المعتزلة، ومفهوم المجاز عند تلك المدرسة، انتقل تدريجيًا إلى الدراسة اللغوية والأدبية للقرآن منطلقًا من منجزات دي سوسير في اللغة، الذي فرق بشكل علمي بين الدال والمدلول (اللفظ والمعنى قديمًا)، ثم من دراسات البنيويين وما بعد البنيويين للنص.

ما زال هذا المنهج – الذي تسبب في محاكمة صاحبه وتطليقه من زوجته بتهمة الردة ليختار أن يلجأ إلى منفاه الاختياري- ما زال مرفوضًا من المؤسسة الدينية رفضًا قاطعًا، مع إصرار على الإبقاء على المناهج المتعارف عليها منذ عقود، وربما منذ قرون، فيما يبدو التحديث مجرد تحديث في النتائج لا في المنهج.

والسبب المتكرر لهذا الرفض هو أن طه حسين أو أمين الخولي أو محمد أحمد خلف الله "غير متخصصين" بصفتهم ليسوا دارسين بالأزهر ولم يدرسوا العلوم الشرعية كما درسها غيرهم من الأزهريين أو من دارسي الدين بشكل عام، في تأكيد على تجاهل ما نادت به هذه الدراسات بشكل كامل وإغلاق للعين والأذن عنها، ليبقى القرآن أسيرًا لعلوم التفسير التي وضعت بدءًا من القرن الثاني الهجري.

لا ينكر مسلم – وليس له أن ينكر- أن القرآن خطاب إلهي، ولكن ما لا يمكن إنكاره أنه نص يستخدم لغة يتكلمها البشر، ويخاطب بشرًا، وبالنظر إليه بوصفه خطابًا فليس لنا أن نركز على المرسل دون أن ننظر للمستقبل، هدف الخطاب في الأساس، الأمر الذي يجعل من دراسة القرآن دراسة لغوية في الأساس تنظر له بوصفه نصًا لغويًا وخطابًا يفترض مستقبلًا، وبالتالي عليه – الخطاب- أن يراعي هذا المستقبل ويخاطبه بما يفهم، مما يدفع للتساؤل: أليس علماء اللغة هم المتخصصين؟ ومصطلح "علماء اللغة" يعني دارسي اللغة بناءً على ما بلغته علومها من تطور كبير وما تبنته واستحدثته من مناهج.

ولكن مع هذه السمعة السيئة لـ"التأويل" الذي يطابق عند الرأي العام التفسير حسب هوى المفسر، وإنطاق النص بما لا ينطق به، ومع هذا المصير الذي لاقاه أبو زيد بسبب منهجه لا بسبب النتائج التي خلص إليها – والتي ليست أخطر من نتائج سابقيه- يبدو أن منهج طه حسين – الذي من المفترض أن نحتفل ونحتفي به الآن- قد راح أدراج الرياح.

ومن القرآن إلى السنة لا يبدو الأمر أفضل حالًا، فلم يمض على خروج الباحث إسلام بحيري من سجنه سوى بضعة أشهر، بعد عام من السجن على أثر دراسته الناقدة لمنهج الإمام البخاري في صحيحه، الأمر الذي انتهى به إلى رفض نسبة بعض الأحاديث للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بناء على المنهج الذي اتخذه، لينتهي به الأمر إلى السجن بتهمة ازدراء الأديان.

مع ما تشهده البلاد الآن من تنام للتطرف ونشاط للجماعات الإرهابية، هذا التنامي الذي امتد ليشمل الوطن العربي بأكمله، بل ولينتقل إلى ما وراء البحر، مخلفًا آلاف القتلى، وبلادًا على وشك الانهيار تحت وطأة الحرب بين الجماعات الإرهابية والجيوش النظامية، في هكذا وضع بدا واضحًا للعالم أن الدوجمائية والإيديولوجيا القائمة على اليقين المطلق هي الوقود الذي يشعل نيران الإرهاب. فصار الوطن العربي ساحة لصراع جماعات يرى كل منها في نفسه ممثلًا للدين الصحيح، فيما يتخبط الآخرون في ظلمات الجهل. في هكذا وضع، يبدو أن منهج الشك منقذ للوطن من هذه الإيديولوجيا الأحادية التي تقيده.

وبالرغم من ذلك فإن كل من تصدى للبحث في هذه النصوص ودراستها دراسة جديدة واجه مصيرًا مأساويًا، بعد أن تطارده تهمة ازدراء الأديان والطعن في الدين، فيما يبدو أنه مواجهة لدوجمائية الجماعات المتطرفة بدوجمائية رسمية تحتكر لـ"المتخصصين" من دارسي العلوم الدينية فقط سلطة الحديث باسم الدين، متجاهلة حقيقة أن الفكر الديني وأن التراث الديني هو المحرك الأول للثقافة العربية وهو المحرك لسلوك أفرادها بوعي أو لاوعي، الأمر الذي – إذا أردنا الوقوف على سبب ما نعانيه من تخلف وحروب مذهبية- يقتضي أن ندرس هذه النصوص باستخدام كل المناهج المتاحة، وبالاستفادة من كل المنجزات في كل المجالات والعلوم المخولة بدراسة النصوص، سواءً أكانت هذه العلوم هي علوم اللغة – بمنجزاتها الحديثة- أو علوم الاجتماع والتاريخ أو الأنثروبولجي.

"وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها".

هذه الكلمات قالها وكيل النائب العام منذ 90 سنة محمد نور في تقريره في قضية محاكمة صاحب "في الشعر الجاهلي". ورغم أن نور لا يتفق مع ما ذهب إليه حسين من أنه لا دليل على وجود إبراهيم وإسماعيل، فإنه يرى أن محاسبة حسين على ذلك غير جائزة لأنه أورد هذه الكلمات في بحث علمي ورأى أن بحثه يقتضيها. هل كان نور أكثر استنارة مما نحن عليه الآن، وأكثر تسامحًا؟ وهل كان الرجل أكثر علمًا بمقتضيات البحث العلميه وما يتطلبه من تجرد؟

تبدو إذن الإجابة عن سؤال "ماذا لو كان طه حسين بيننا الآن؟" مخيفة، فخلال العقود الماضية واجه من تصدوا لتطبيق منهجه مصيرًا تراوح بين السجن والقتل، وما زالت إلى الآن القضايا التي طرحها طه حسين مطروحة، وما زال ما دعا إليه مرفوضًا. فللقارئ فقط أن يتخيل أن حسين خرج علينا في 2017 بالعبارات المذكورة آنفًا، هل كان ينجو من المحاكمة؟ أليست كلمات أقل منها انتهت بغيره إلى السجن؟

طه حسين الذي بدأ "مع أبي العلاء في سجنه" لم يكن يعلم أنه سيظل معه في سجنه بعد مرور قرن، وربما لو كان حيًا بيننا الآن – بعد ما تقدم من مصير تلاميذه والذين احتذوا حذوه- لكان مع نصر حامد أبو زيد في منفاه، أو لانتهى به الحال مطعونًا بمدية في رقبته كنجيب محفوظ، أو للفظ أنفاسه بعد أن فجر الرصاص كبده ومزق أمعاءه كفرج فودة، أو لقضى عامًا في السجن مع إسلام بحيري.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة