كيف يمكن التأثير في خيال الجماهير ونيل إعجابها؟
الأمر لا يحتاج إلى بلاغة خطابية مقعرة.. كل ما يؤثر على مخيلة الجماهير يقدم على هيئة صورة صريحة مؤثرة لا تحتاج إلى تأويل؛ تعكس شيئًا كبيرًا.. مهمًا.. مثلًا: جريمة كبيرة أو نصر كبير أو أمل كبير أو معجزة!
هكذا تحدث المؤلف الفرنسي جوستاف لوبون؛ في كتابه الأكثر شهرة (سيكلوجية الجماهير).
وأضاف لما سبق:
مائة حادث صغير لا تؤثر أبدًا في مخيلة الجماهير ولا تحركها.. ولكن جريمة كبيرة أو كارثة واحدة كبيرة تؤثر بعمق فيها؛ حتى لو كانت نتائجهما أقل بكثير من النتائج القاتلة المجتمعة لمائة حادث عابر.
نستنتج من ذلك أن الوقائع في حد ذاتها لا تؤثر في الجماهير؛ وإنما الطريقة التي تعرض بها!
وعندما تعتمد طريقة العرض على التكثيف والصور المؤثرة الأخاذة تمتلئ الروح بشيء كالهوس.. وذلك فن حكم الجماهير.
الجماهير لا تفكر عقلانيًا.. فالتعاطف مع شيء يتحول لديها فورًا إلى عبادة، والنفور يتحول مباشرة إلى حقد.
وعاطفة الجماهير تميل إلى عبادة الإنسان الذي يبدو لها خارقًا للعادة.. وبعدها يستحيل أن تناقش عقائده وأفكاره؛ بل إنها تعتبر أي أحد من الأعداء؛ لمجرد أنه يرفض تبني هذه الأفكار!
وما يخص تحويل الإنسان بالعواطف إلى مرتبة الإله؛ ينطبق على البطل والصنم والفكرة السياسية؛ خاصة حينما يتغلف كل منهم بإحساس ديني.
بعض الأبطال يتحولون عند الجماهير في فترة ما إلى آلهة.
وعلى سبيل المثال نابليون الذي ظل مدة ١٥ عامًا بطلًا أسطوريًا لدى الناس.. وقيل إنه لم يحصل أن استطاع معبود إرسال الناس إلى الموت بمثل السهولة التي فعل بها ذلك خلال الحروب.
بينما قال نابليون نفسه فيما بعد إنه تظاهر بأنه كاثوليكي حقيقي في فرنسا، وأعلن اعتناقه الإسلام حينما دخل مصر؛ وتظاهر بأنه بابوي متطرف كي يكسب ثقة إيطاليا، ولو أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود، لأعدت من جديد معبد سليمان!
ويعلق جوستاف لوبون في كتابه: لهذا السبب تجد أن رجالات الدولة الكبار في كل العصور وفي كل البلاد بما فيهم الأكثر استبدادًا قد اعتبروا الخيال الشعبي أكبر دعم لسلطتهم..
وكم كانت الجوانب الساحرة والأسطورية دعامتين للحضارة؛ وكم حركت أحداث التاريخ حركات الجماهير المبنية على العواطف وإيمان الجماهير بقوتها وقدرتها على تحقيق المستحيل..
وبسبب قوة تعلق الجماهير بالصورة؛ ظل الخبز والعروض المسرحية يشكلان أفضل سبل السعادة لكل الناس في روما القديمة؛ ولم يتغير هذا المثال إلا قليلًا على مدى العصور.
حينما ينخرط الفرد بين الجماهير تتغير صفاته الأصلية التي كان يتمتع بها وهو منفرد أو في عزلة؛ وكأنه عنصر في معادلة كيميائية اختلط بغيره وتفاعل، فكان الناتج شيئًا جديدًا ذا صفات وخصائص مختلفة تمامًا.
يقول جوستاف لوبون في كتابه:
علم نفس الجماهير اكتشف أن الفرد حين يكون وسط الجماهير يتأثر بالأحداث معهم كما لو كان تحت تأثير التنويم المغناطيسي؛ وقد يتحرك أو يأخذ قرارًا جماعيًا؛ ما كان يفعله أو يخطر له لو كان وحده.
فقد يتحول من بخيل إلى كريم، ومن جبان إلى شجاع.. وربما يتحول من شخص واقعي ذي عقل فاهم ناقد إلى شخص غوغائي تقوده الغريزة أو العواطف أو الخيال، وينساق إلى تصديق شائعة أو قبول تهيؤات بالإيحاء وبسهولة.
وأثبت الواقع عدة مرات أن أسياد العالم ومؤسسي الأديان والفاتحين والحكام وأصحاب الإمبراطوريات والزعماء ورجال الدولة العظام على مر العصور؛ كلهم كانوا خبراء وموهوبين في علم نفس الجماهير بشكل فطري؛ لذلك برعوا في خوض الحروب وقيادة الناس والتأثير فيهم !!!