Close ad

قراءة في "صورة صلاح الدين في الآداب الغربية"

12-10-2017 | 18:51
قراءة في صورة صلاح الدين في الآداب الغربيةكتاب "صورة صلاح الدين الأيوبي في الآداب الغربية الوسيطة"
عزوز علي إسماعيل‎

يُعدُّ كتاب "صورة صلاح الدين الأيوبي في الآداب الغربية الوسيطة" للدكتور أحمد درويش في حد ذاته تذكرة للغافلين من أمة العرب وخاصة ممن يتطاولون على هامة تلك الشخصية العظيمة ممن أرادوا النيل من رموز الأمة الإسلامية، التي أصبحت شخصية أسطورية تتناولها الآداب الأخرى على اعتبار أنه من القادة العظام الذين قدموا شيئاً لأمتهم العربية.

موضوعات مقترحة

بالفعل كان القائد صلاح الدين الأيوبي مبعث الإعجاب والتقدير في الآداب الأخرى فكتب عنه الكثير لدرجة أن تلك الكتابات خرجت عن النصِّ، وأعطت صلاح الدين الأيوبي أشياء أخرى ومكتسبات أخرى فوق تلك التي أحرزها على أرض الواقع، فهو من قضى على ما كان يعرف بــ"الحروب الصليبية" التي جاءت لنا غازية من الغرب فتصدى لها في حطين عام 583 وأخرجهم من بيت المقدس بعد أن حررها من براثينهم، وجاء لنا الدكتور أحمد درويش بهذا الكتاب لنرى صورة هذا القائد المغوار في كتابات الغرب، كيف نظروا إليه؟ وكيف عبَّروا عن تلك الشخصية العظيمة؟

وظلت تلك الفكرة من أول الكتاب إلى آخره وأضفى عليها نوعًا من التأكيد بالنظر إلى التراث وكيف كان الفرنجة في قصص ألف ليلة وليلة. ومن المعروف أن أية شخصية تاريخية لا بد وأن تكون حولها ملابسات بسبب وجود بعض الطوائف المخالفة لهذه الشخصية، وهو ما حدث في العالم العربي إبان وجود شخصية صلاح الدين. وكيف كانت هناك بعض الكتابات في عصر صلاح الدين حول الآخر الغربي، وما كتبه تحديداً أسامة بن منقذ في حق الفرنجة وهو أحد فرسان وكتَّـاب عصر صلاح الدين.

وقد عكف الدكتور أحمد درويش في هذا العمل على توضيح جزئية مهمة وهي أن الآخر دائمًا متربص بنا ودائمًا يعترفون بنا ما دمنا أقوياء ولدينا فكر يمكننا من الاستغناء عنهم، فضلًا عن أن الأمم في حياتها لحظات حرجة في مسيرتها دائمًا ما تحتاج إلى تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى استعادة تلك الثقة الماضية لتستطيع البناء من جديد، وهو الأمر الذي أشار إليه الدكتور أحمد درويش في مقدمة كتابه.

وإذا كانت الحروب وما يتمخض عنها من آثار مدمرة وبشعة، كانت خيارات بعض الشعوب للاستيلاء على فكر ومقدرات شعوب أخرى، فإن هناك بقاءً للأثر الناتج عن تلك الحروب سواء أكان بالسلب أم بالإيجاب، أقصد المنتصر أم المنهزم. فبعد تلك الحروب التي شنها الغرب على العرب أو ما تعرف "بالحروب الصليبية" بقيت هناك صور مرسومة لأولئك الغزاة وفي الوقت نفسه كانت هناك صورة صادمة للقائد "صلاح الدين الأيوبي" رسمها كُـتَّاب الحملات التي أرادت الاستيلاء على بلادنا وظهر ما يعرف بالتأثير والتأثر، سواء أكان لدينا في العرب أم في الغرب، وكان لكلٍ آثاره على الجانبين في مجالات متعددة في الأدب والسياسة والحياة الاجتماعية، سواء أكان المنتصر هو من يكتب التاريخ - كما يقال - فيستطيع أن يزيف ما يريده، أم على أن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب، فيقلدون أولئك المنتصرين.

وعلى الرغم من ذلك، واعترافًا بأن الرومان قد استطاعوا الانتصار على اليونانيين، فإن الغالب هو من كان مولعًا بتقليد المغلوب لأن اليونانيين كانوا مدارس للفكر والإبداع والفلسفة، فلم ننس فلاسفة اليونان القدماء الذين قامت على أكتافهم حضارة ما زالت أصداؤها حتى الآن. فسقراط الذي قال قبل أن يعدموه "ويل لمن سبق عقله زمانه" فهو ما يؤكد تفرد تلك العقول كما كان الحال عند بوقراط في الطب وكذلك أفلاطون وأرسطو وغيرهم من علماء أثينا، فأصبح الغالب العسكري نفسه مولعًا بتقليد المغلوب الثقافي الذي أحب العلم والثقافة وأصبح منارة.

من هنا نقول إن الحروب قد تكون سببًا في تلاقح الحضارات والأخذ والعطاء كما هو الحادث في الآداب اليونانية والرومانية قديمًا وكما هو الحادث في العصر الحاضر مع وجود الحملة الفرنسية في مصر والاستفادة منها رغم أنها فشلت فشلًا ذريعًا من الناحية العسكرية فإنها أفادتنا في معرفة الطباعة وانتشار الصحافة وأمور أخرى كثيرة، وفي وقت السلم أيضًا كانت هناك إفادة حقيقية للجانبين كما هو الحال عند البعثات التي أرسلت للغرب نحو علي مبارك ورفاعة الطهطاوي والعكس من جاء إلينا منهم مستشرقًا نحو كارل بروكلِّمان، وريجيس بلاشير من الألمان، لذلك فإن الفكرة التي يرمي إليها الكاتب ظلت إلى نهاية العمل وإثبات أن المغلوب يقوم في أغلب الأحيات بتقليد الغالب وهو ما حدث مع صلاح الدين فقد قلوه في الغرب وجعلوا أصله غربيًا.

وتأكيدًا للفكرة فقد كانت فترة الحروب الصليبية نموذجًا بالفعل للتأثير والتأثر وليس التأثير والتأثر بفعل النص نفسه ليجد له نصًّا آخر يأخذ منه هذا التأثير، وقد أشار الدكتور درويش إلى ذلك، حيث إن الأمر قد اتسع فقد تكون الصورة أو الانطباع عن شخص بعينه تنتقل إلى الغرب لتتسع مداها وهو انتقال مكتوب بلا شك ولكن الأمر قد يزداد في إطار التعبير عن شخصية لها تاريخها العربي مثل شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي فنجد هناك صورة للأمة العربية في الأمة الغربية بفعل تلك الشخصية، وتصبح هناك صورة راسخة في الأذهان عن هذه الشخصية بفعل حدث عظيم قامت به وهو الأمر المتمثل في شخصية صلاح الدين فهو قاهر الحروب الصليبية وداحرهم عن بكرة أبيهم فأصبحت صورته في الغرب مرعبة. بخاصة أن تلك الشخصية اتسمت بالقوة والنبل وكانوا يجعلون من أنفسهم نبلاء! فكيف بهم وقد وجدوا من هو أنبل منهم بخاصة في هذا القائد صلاح الدين.

فبعد أسر السلاجقة الإمبراطور رومانوس ديوجينيس استغاث البيزنطيون بالغرب فأصبحت النداءات في كل مكان لدرجة الباباوات والقساوسة سارعوا من أجل نجدته وكانت موعظة البابا إربان الثاني 1095 هي التي حثت العالم المسيحي على الحرب ضد المسلمين ووزع على المحاربين الصلبان ومن هنا سميت بالحروب الصليبية فاحتلوا القدس عام 1099 .


لقد وصل بهم الأمر ومن كثرة اندهاشهم بتلك الصفات النبيلة إلى تحوير تلك البطولات والجور عليها ليدخلوها في باب المحتالين أو الخونة وبعد أن فشلوا في ذلك جعلوا من أصول صلاح الدين ونظرًا لشجاعته وإقدامه في حربهم  يثبتون أن أصوله مسيحية وأن القيم التي يتمتع بها هي في الأصل قيم مسيحية وأن أصوله أوروبية، وأصبحت هناك دراسات في هذا المجال وأقوال من الشعر والنثر، وكانت تلك الدراسات خاصة بالأدب المقارن في رصد صورة الشرق في الأدب الغربي، ومن أهم تلك الدراسات الدراسة التي قدمها الإيطالي فيور افانتي 1891 حول أسطورة صلاح الدين في الأدبين الإيطالي والفرنسي، وقد علق عليها الكاتب الفرنسي الشهير جاستون باري وهو الأمر الذي فتح مجالًا واسعًا حول الدراسات المقارنة والاطلاع على الآداب المختلفة. وليس غريبًا أن تجرى تلك الدراسات حول شخصية قد انتصرت على الحملات الصليبية ضد العرب واستردت بيت المقدس منهم.

وكأن الدكتور درويش في هذا الكتاب يرد في طبعته الجديدة على ما زعمه البعض من تطاول على شخصية صلاح الدين، وقد أوضح الدكتور درويش أن صورة صلاح الدين الأيوبي في الآداب الأوروبية كانت ناصعة، فمن صوره الناصعة أن صلاح الدين وبعد فشل دخول ريتشارد قلب الأسد القدس أوقع ريتشارد قلب الأسد هدنة مع صلاح الدين لمدة ثلاث سنوات سمح فيها صلاح الدين للحجاج المسيحيين بالوفود إلى بيت المقدس دون أن يتعرض لهم أحد.

ومن صور صلاح الدين الأيوبي في الغرب أنه كان يعامل الأسرى معاملة حسنة فقد وقع في الأسر ملك طبرية الصليبي الذي وقع مع مجموعة كبيرة من فرسانه في أسر صلاح الدين وقد أحسن صلاح الدين له ولغيره من الملوك الذين وقعوا في الأسر ولم يستطع الملك تدبير 100 ألف دينار من أجل الفدية، وقد سمح له صلاح الدين بإطلاق سراحه على أن يدبر هذا المبلغ العام القادم، وليس ذلك فحسب بل أعطاه حق اختيار عشرة من فرسانه كي يطلق سراحهم، ليس ذلك أيضاً فحسب بل من سماحة القائد صلاح الدين بأن أمر حراسه بعلاج الأسير المريض وحين رغب في العودة إلى بلاده أمر صلاح الدين بإعطائه 200 مارك وقد أخطأ الكاتب وكتب 300 مارك وعاد بالأمر للقائد صلاح الدين حتى يصوب الخطأ الذي وقع فيه فأمره صلاح الدين أن يعطيه 400 مارك وذلك حتى لا يقال إن القلم أكرم منه".

وكان صلاح الدين يعتني بالمرضى أشد الاعتناء، فقد كان يتنكر ليتعرف أحوالهم، والأمثلة على نبل أخلاق صلاح الدين كثيرة منها حين طرق أبواب الصليبيين في القدس يوم مولد السيد المسيح عليه السلام وأغدق عليهم الهدايا ولأطفالهم ابتهاجًا بهذا اليوم لدرجة أن البعض شك في تلك الروايات التي تروى بأن جذوره من الغرب المسيحي وأن أمه فرنسية جاءت إلى مصر وتزوجت والده وأنجبته. وكثيرًا ما ذكروا تلك الأسطورة وكيف أن الفرنسيين يعدون أخوال صلاح الدين وقد أخذ عنهم الفروسية والشهامة كما تقول تلك الأساطير، بل إن هناك قصصًا بعينها منها ما كتبه بوسون دي جوبيو والتي جعل فيها صلاح الدين يعتنق الديانة المسيحية ويفسرون ذلك بأنه كان محبًا للمسيحيين، وقد ذكر دانتي في الكوميديا الألهية قيمة ونبل صلاح الدين الأيوبي والإسكندر المقدوني.

وقد أسهم الأدب الإسباني في ظهور صورة صلاح الدين الأيوبي وتجسيد تلك الأسطورة فكتب جون مانويل في منتصف القرن الرابع عشر قصة تتحدث عن صلاح الدين العاشق والباحث عن الحب تنطلق من القاهرة حيث يعشق صلاح الدين امرأة بارعة الجمال من مصر وعندما طلب ودها اشترطت عليه شرطاً وهو أن يجيبها عن سؤال "ما أجمل خصلة يمكن أن يتحلى بها الرجل وتصبح مصدرًا لكل الخصال الأخرى؟ وفكر طويلًا ولكنه لم يستطع الإجابة فطاف البلاد شرقًا وغربًا وكان متنكرًا في صورة شاعر إلى أن وصل إلى أحد القادة الغربيين فأخذه إلى والده العجوز المخضرم ليجيب له عن السؤال فاكتشفه العجوز وعرف أنه صلاح الدين بحكم أن العجوز كان قد وقع في الأسر لديه وعفا عنه فأخذه جانبًا وقال إن أجمل خصلة يمكن أن يتحلى بها الرجل وتصبح مصدرًا لكل الخصال الأخرى هي "الشـــرف".

من هنا تتضح الفكرة أكثر ذلك أن البطولات العسكرية للقائد وحدها ليست سر إعجاب المغلوب بالغالب وإنما كانت صفة الرحمة بالأسرى والضعفاء والكرم والجود والنبل خاصة مع أعدائه وأصبحت هذه القصص تمثل تراثًا ضخمًا لدى المسيحيين في الغرب ومن ثم ظهرت صورة صلاح الدين في الغرب في هذا الشكل المعبر عن كرمه ونبل أخلاقه.


وفي الكتاب نفسه حاول الدكتور درويش، وتأكيدًا على فكرته تبيان أن كتَّاب صلاح الدين كانوا منصفين في الكتابة عن الغرب وأن عصره كان يتمتع بالحرية الفكرية فلا قيود على أحد وهو مبحث رائع وجميل يضاف إلى ما سبقه من دراسات تعد خاضعة للأدب المقارن، قام بها الأمير أسامة بن منقذ يصور فيها أخلاق الفرسان وشجاعة الفرسان من عدمه لدى الفرنجة خاصة في ذلك العصر الذي كان فيه صلاح الدين الأيوبي، وجمع كل تلك الصور في مؤلفه "الاعتبار" الذي نال اعتبار الجميع واحترامهم فقد حوى فيه كنزًا من الآثار هنا وهناك الخاصة بالأدب ورسم الصورة حول فرسان الصليبيين الذي حاربوا صلاح الدين واحتلوا بلادًا عربية عديدة، كان لها أثرها على الواقع العربي والإسلامي، يضاف إلى ذلك أن أسامة بن منقذ كان شاعرًا وفارسًا ومن كبار شعراء الفرسان في عصره وكان ديوانه الحماسي لا يفارق خيمة صلاح الدين فقد كان معجبًا بما كان يكتبه لما فيه من شجاعة ورغبة في الإقدام للنيل من الأعداء، وقد كان أسامة بن منقذ منصفًا في وصف أولئك الفرنجة حيث وصفهم بصفات فيه تخليد لذكراهم على العكس مما كانوا يفعلونه حين يتحدثون عن فرسان المسلمين والعرب وهذا ما ظهر بجلاء في أعمالهم. وذكر ذلك بأمانة علمية الدكتور أحمد درويش، في تأكيد منه على فكرته.

وقبل أن نخوض في تلك الصور التي رسمها أسامة بن منقذ للغرب كان جديرًا بالدكتور أحمد درويش تناول لفظة "الفروسية" التي تنازع فيها الغرب والشرق تحيزًا لأصل الكلمة، وقد كان هو الآخر منصفًا في البحث والتنقيب عن أصل هذه الكلمة بالدليل وأرجع أصلها إلى التراث العربي العظيم مستشهدًا على ذلك بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "علموا أولادكم العوم والفَراسة" والفراسة هنا تعني الفروسية وهو ما فسره صاحب لسان العرب بأن الفراسة بفتح الفاء تعني العلم بركوب الخيل، وقد استخدمت اللفظة عند الكتاب والمبدعين سواء في الإبداع أم في المعجمات فهذا ياقوت الحموي يتحدث عن إحدى البلاد فيقول : "ولأهلها فروسية وبأس شديد وقد قهروا جميع من حولهم". وكما ذكر الدكتور درويش في كتابه بأن دوائر الشجاعة والعلم والفطنة والجود تلتقي كلها تحت ظل كلمة الفروسية ومنها تنبثق آداب هذه الخصلة. وهو المعنى المرتبط بدعوة القرآن العظيم "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". وقد أكد أسامة بن منقذ أن الإفرنجة يتمتعون بالشجاعة في الفروسية وأضاف أنهم أصحاب القضاء والحكم وقال عنهم إن الإفرنجة ليس فيهم إلا فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، ويتعجب في الوقت نفسه من عيب يتملك أولئك الإفرنجة وهو عدم الغيرة على نسائهم بما يتطلبه نقصان النخوة التي هي ضرورية للشجاعة.

ويؤكد أسامة بن منقذ شيئا مهما وهو أن الذين يخالطون المسلمين منهم يصبحون أقل جفوة وخشونة من الذين لا يخالطون المسلمين وأن هؤلاء الإفرنجة تقل خشونتهم وجفوتهم إذا عاشروا وعايشوا المسلمين.

ويورد الدكتور درويش ما قاله أسامة بن منقذ في حق المسلمين وكيف أنهم كانوا لا يخشون الموت ولا يهابونه وقد قال: "لا يظن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر ولا يؤخره شدة الحذر ففي بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال وتقحمت المخاوف والأخطار ولاقيت الفرسان وقتلت الأسود وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح وجرحت بالسهام وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغت التسعين ".

وقد عاش أسامة بن منقذ ستة وتسعين عامًا التقى في آخرها بصلاح الدين الأيوبي وكان محبًا له وقد عاصر عودة بيت المقدس قبل مماته بعام تقريبًا، من هنا فإن الآخر حين يرسمه ويكتبه من هو بعيد عنه أو هو ضده ويشهد له بالشجاعة أحيانًا وبعدم النخوة في أمور أخرى لهو دليل على الحقيقة التي نفذت منها ريشة أسامة بن منقذ الشاعر العربي.
 

كلمات البحث
اقرأ ايضا: