Close ad

"عربانة" العراق.. لا توقفوا زئير العربة

26-9-2017 | 09:50
عربانة العراق لا توقفوا زئير العربةمسرحية عربانة العراقية
محمد فايز جاد

أوضاع مرتبكة يعيشها العراق منذ عقود، زاد من ارتباكها وتعقيدها الغزو الأمريكي في 2003 الذي ترك العراق بلدًا محطمًا، في حاجة لمعجزة لإعادة إعماره، بخاصة مع انفجار الأزمات الطائفية والعرقية – تحديدًا بعد الغزو- وظهورها في شكل اقتتال طائفي، ودعوات للاستقلال يستميت فيها إقليم كردستان للانفصال. يبدو العراق في هذه الحالة تربة خصبة للتجريب في المسرح، الذي يعد الوسيط الأكثر فعالية للتعبير عن حالة الضياع والتشتت في مواجهة لامعقولية الوضع السياسي.

موضوعات مقترحة

هذا الوضع المرتبك والمعقد حاول صناع المسرحية العراقية "عربانة"، التي قدمت على مسرح السلام ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، حاولوا شحنه خلال جرعة مسرحية مكثفة، تنضح بالبوح والهزل والسخرية المريرة وتوجه الصدمة تلو الأخرى للمشاهد.

بداية من النص يبدو أن الكاتب العراقي حامد المالكي نجح في عدم الانسياق نحو ما وصفته الناقدة الراحلة د.نهاد صليحة، في كتابها "عن التجريب سألوني"، بـ"الموضات أو التقاليع"، هذه "التقاليع" التي تتوقف صليحة تحديدًا عند واحدة من أبرز صورها في المسرح التجريبي العربي وهي الاهتمام بالحركة على حساب النص، الذي يكاد يتلاشى تحت وطأة ما تصفه صليحة بالتقليد للمسرح الغربي، الذي رأت أنه مر بمراحل طويلة من التطورات وجد عندها اللغة غير صادقة، أو غير قادرة على التعبير، ليلجأ للحركة والأصوات غير المفهومة بدلًا منها، مستعينًا بالأسطورة.

المسرحية التي اتخذت طابعًا سياسيًا يتعمد الكشف القاسي دون مواربة عن مواطن الخلل – ليس في المجتمع العراقي فحسب وإنما في غالبية المجتمعات العربية- اتسم نصها بطول مناسب، يجعل من اللغة أداة رئيسة متجنبًا التهميش المتعمد لها خلال العروض التجريبية التي عرفها المسرح العربي في السنوات الأخيرة. وبشكل عام يبدو القرار منطقيًا بإعطاء الصدارة للغة وعدم الاكتفاء بالتعبير الحركي؛ بخاصة مع هذه الشحنة من الأفكار والمشكلات التي يسعى النص لتفجيرها، والتي يفرضها الواقع السياسي بطبيعة الحال.

الحرب – سواء حروب عراق صدام حسين أو الغزو الأمريكي، الفقر، الديمقراطية الغائبة، والاقتتال الطائفي والعرقي، أمور بدت أكبر من قدرة الكاتب على استخدام ألعاب الرمزية والحيل الفنية لتمرير الموقف السياسي، ليخرج النص في صورة طرح سياسي شديد المباشرة، يفضي بهموم "حنون" المواطن العراقي الحاصل على البكالوريوس ولكنه يعمل على عربة "عربانة" خضروات. هموم مادية وسياسية وثقافية تدفع به للسير على خطى البوعزيزي، الشهيد الأول في الثورة التونسية، وشرارة ثورات الربيع العربي، الذي أشعل النار في جسده اعتراضًا على ما يعانيه من فقر. هكذا يقرر حنون الانتحار، ولكنه – وهو روح تنتظر الحساب- لا يجد حتى رائحة النفط في بلاد النفط.

هذا الربط بين حنون – المواطن العراقي- والبوعزيزي – المواطن التونسي- يخرج حنون من كونه شخصية تمثل الواقع العراقي الراهن إلى شخصية أكثر اتساعًا تشمل المواطن العربي الذي يعيش في مجتمعات تعيش ظروفًا مشابهة، في خلق لما يسميه آلارديس نيكول بـ"الروح العالمي" التي تخلق نوعًا من التأثر والتضامن بين المشاهد وبين العمل، الأمر الذي لا يتحقق فيما إذا كان النص مغرقًا في المحلية.

غير أن الطرح السياسي المبشر، الذي يقع أحيانًا في هوة الميلودرامية المستجدية للتعاطف، يفرض رؤية إخراجية وأدوات سينوغرافيا حيوية تمنح الطاقة للعرض الذي يقدم نصه ما هو معلوم بالضرورة – إن جاز التعبير- بالنسبة للجمهور، الأمر الذي يفرض على صناع العمل إيجاد ما هو قادر على صنع الدهشة لدى المشاهد الذي يعيش الواقع نفسه، ولن تفاجئه هذه الكلمات، وإن بدا متأثرًا بها متعاطفًا مع صاحبها.

تسعى سينوغرافيا العرض إلى تجريد شديد يتجلى في تجريد الفضاء المسرحي بشكل شبه كامل؛ حيث تخلو خشبة المسرح طوال العرض من أي شيء سوى عربة حنون – على عكس اقتراحات الكاتب في النص التي احتوت على ديكورات متعددة- وفي الخلفية ستار أبيض تسقط عليه الصورة النابعة من "بروجكتور" يستطيع المشاهد في أي من صفوف المسرح أن يرى الشخص المسئول عن اختيارها والجالس في الصف الأول.

في قلب المسرح العربة التي – كما هي مصدر رزق حنون- تبدو محورًا للأحداث، وقلبًا لعالم المسرحية، الأمر الذي قد يعد عاملًا في تركيز انتباه المشاهد على هذه البقعة من المسرح مقحمة إياه في مأساة حنون، ولا يتدخل في هذا التواصل سوى ما يعرض في الخلفية. أما في الخلفية فيلجأ المخرج إلى ما يسمى برقمنة المسرح، أو المسرح الرقمي، وهو الاعتماد على التكنولوجيا ممثلة في الصور التي يبثها البروجكتور، والفيديو، والمشاهد المتحركة، التي تتضافر مع الموسيقى الساعية لأسر المشاهد داخل الحالة الوجدانية التي يقدمها حنون على المسرح، بموسيقى ذات إيقاع عسكري باعث على التوتر أحيانًا، وموسيقى هادئة وحزينة، سرعان ما تنقلب إلى موسيقى راقصة تتزامن مع رقصات حنون العبثية. ويسعى التعبير الحركي، والرؤية الإخراجية لعماد محمد، لإضفاء حيوية على العرض، بخلق إيقاعات حركية سريعة تضفي نوعًا من التوتر على جو العرض.

حنون يبدو غير قادر على الإتيان بأي فعل، يستطيع المشاهد أن يستنتج ذلك بسهولة خلال مراحل حياته التي يستعرضها من مستقره في العالم الآخر، وذلك بعد أن يفتح صاحب الحاسوب الجالس في الصف الأول ملفًا على حاسوبه يحوي مرحلة من حياة المواطن العراقي.

ثلاث مراحل يمر بها حنون: الطفولة، التي يتلقى فيها تعليمًا يسعى إلى إقناعه بالفقر والإذعان للظلم على يد معلم يخشى من التفوه بأية كلمة خوفًا من الآذان المنتشرة في كل مكان، ثم الشباب الذي يتحول فيه إلى جندي في الجيش يساق قسرًا إلى الحرب التي لا يتنصر فيها سوى الموت – حسب حنون- على يد أحد الضباط المتحمسين للبعث، وأخيرًا الكهولة التي يلتقي فيها بالبرلماني المتأمرك صاحب لعبة الورقة والصندوق والأحلام الزائفة.

وما يمكن أن يلحظه المشاهد أن الشخصية لا تتغير في الحالات الثلاث، فالمعلم وضابط الجيش المتحمس للبعث، والبرلماني المتأمرك، كلاهم يؤديهم الفنان يحيى إبراهيم، وكأن الكاتب والمخرج أرادا بذلك تمثيل السلطة الأبوية التي – وإن اتخذت وجوهًا متغيرة- فإنها تحمل جوهرًا واحدًا لا يتغير، من المؤسسة التعليمية للمؤسسة العسكرية البعثية للمؤسسة السياسية التي برزت بعد غزو 2003.

التعبير الحركي، وكذلك التفاوت بين حنون، الذي يؤدي دوره الفنان عزيز خيون، و(المعلم – الضابط – البرلماني المتأمرك) ترسخ كلها لهذه السيطرة والسطوة اللتين تفرضهما هذه السلطة الأبوية على حنون، المواطن العراقي الفقير. يتحكم إبراهيم في خيون جسديًا طوال العرض، يحمله فوق كتفيه، يبدل له ملابسه من اللباس المدني للباس العسكري، يقيده بالعربة في دور البرلماني ليجبره على لعبته الخادعة، فيما يبدو حنون/خيون لعبة في يده، يتجسد ذلك في ضآلة البنية الجسد للأول في مقابل ضخامة الأخير.

هل كان صناع العرض متفائلين بجعلهم حنون يرسل رسالة إلى زوجته من العالم الآخر يأمرها بألا توقف زئير العربة؟ هل هو إصرار من المواطن المقهور على الإتيان بأي فعل وإن كان ضئيلًا؟ أم أنها الضرورة التي تفرض نفسها قهرًا عليه وعلينا؟ فإن توقف زئير العربة فلا حل سوى في اللحاق بالبوعزيزي حرقًا، وإن كان ذلك صعبًا بعد أن شح النفط في بلاد النفط.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة