كانت نكسة 67 هي الشرارة التي فجرت ملحمة جمال حمدان الكبرى "شخصية مصر".. فقد صدمته الهزيمة، برغم أنه قد تنبأ بها في بعض مقالاته عام 1965، منتقدًا بعض السياسات الداخلية، وقال "حمدان" عن كتابه "شخصية مصر":
"إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى فهم كامل لوجهنا ولوجهتنا لكياننا ومكانتنا، لإمكاناتنا وملكتنا، لنقائضنا ونقائصنا، وكل أولئك بلا تحرج أو تحيز، ولا هروب، فليس كتابي هذا دفاعًا عن مصر، ولا هو محاولة للتمجيد، إنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالعيوب على حد سواء، ويشخص نقاط الضعف والقوة.
وصدرت النسخة الأولى في 318 صفحة عام 1967؛ حيث يعالج فيها "حمدان" الوجود المصري في الزمان والمكان، أمس واليوم وغدًا، ويختزل عبقرية مصر وروحها عبر التاريخ في أسلوب العالم الفنان ورؤية إستراتيجية مستقبلية واضحة؛ اعتمادًا على قاعدة معرفية موسوعية لهذا العالم الجليل.
ثم أعاد كتابته بشكل أكثر في ثلاثة كتب متوسطة الحجم، وأخيرًا أعاد كتابتها في أربعة أجزاء كبيرة، تقترب من أربعة آلاف صفحة، المهم توالت المؤلفات، ومنها أيضًا (اليهود رؤية أنثروبولوجية، إستراتيجية الاستعمار والتحرير، 6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية، قناة السويس، خريطة الزراعة المصرية)، هذا بجانب من بعض الكتب باللغة الإنجليزية، والعديد من المقالات والأحاديث.
ويبرز تساؤل مهم لماذا الاهتمام الكبير بكتاب "شخصية مصر" وللإجابة عن هذا التساؤل يذكر الأخ الأصغر رأي حمدان نفسه، فيقول إن كتابي "شخصية مصر" هو أحب الكتب إلى نفسي وأقربها إلي.. فهو موضوع وطني قومي، وقد استغرق مني نحو عشر سنوات، وعدد صفحاته تعادل تقريبًا كل ما كتبته في حياتي، "وهذه توصية واضحة بأهمية الكتاب الذي يعتبر من أهم المراجع لكل من يهتم بسياسة مصر الخارجية، ومتطلبات الأمن القومي، فهو يحدد ملامح وأبعاد الأمن القومي بوضوح، ومنطلقًا من نقطة بدء لا خلاف عليها إطلاقًا، وهي أن الجغرافيا هي أم الحقائق والعلوم فهي مثل الأم للإنسان، وإذا تكلمت الجغرافيا، وتكلمت أرض مصر على لسان عالمها الكبير "حمدان" فعلى الجميع أن يصمت ويتأمل ويتعلم.
وأيضاً هذا الكتاب مرجع مهم لكل دارس للتاريخ أو للجغرافيا أو للسياحة والاقتصاد والزراعة وعلوم البيئة والإيكولوجيا، ومن هنا أطالب بأن يدرس هذا الكتاب في الدراسات الاجتماعية أو القومية بالمرحلة الثانوية، أو تحت أي مسمى آخر، حتى يفهم كل مصري ويعي أهمية هذا الكتاب ويمكن اختصاره من خلال مجموعة من العلماء، وأنا بوجه خاص مستعد للمساهمة بذلك بدون أي مقابل.
ونعود سريعًا لأهم الأفكار التي طرحها "حمدان" في مجمل ما كتبه والتي تؤكد صدق رؤيته:
• في الستينيات في قمة مجد روسيا تنبأ "حمدان" بتفكك الكتلة الشيوعية وسقوطها، وكان ذلك عام 1968، وقال إن هذا التفكك واقع لا محالة في المستقبل.
• فضح "حمدان" بني إسرائيل في ادعاءاتهم بأن اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وأثبت ذلك في كتابه "اليهود أنثروبولوجيا"، وهذا ما توصل إليه بعد ذلك الكاتب ("أرثركوتسلر" في مؤلفة القبيلة الثالثة عشرة عام 1976).
• تنبأ "حمدان" بالتباعد والانفصال التدريجي بين أوروبا وأمريكا.
• تنبأ "حمدان" بأنه في حالة غياب مصر عن القيادة في العالم العربي سيظهر التفكك والانهيار العربي، وهذا ما يحدث الآن.
• تنبأ "حمدان" بانهيار أمريكا وتراجعها السريع، وأنها سوف تتحول قريبًا إلي عملاق سياسي وقزم اقتصادي.
• كما يرى "حمدان" أن مصر وتركيا وإيران ثلاث قوى بينها صراع حتمي ومستمر؛ من أجل النفوذ في الشرق الأوسط، وكل ارتفاع هنا يعني انخفاضًا هناك وأن تركيا وإيران كلاهما خطر على العروبة ومصر.
• ويرى حمدان أن إثيوبيا والسودان قد يتحدان ويعملان معًا ضد مصر ومصالحها، هذا بجانب توقعات أخرى ليس الوقت مناسبًا لعرضها.
• وأخيرًا من الاستشراقات المهمة قوله "يبدو لي أن عودة الإسلام ستصبح حقيقة واقعة في أكثر من مكان"
كاتب المقال:
أستاذ علم الاجتماع البيئي ـ جامعة عين شمس