Close ad

برامج الفضائيات التنافسية في الآداب والفنون.. عن حقيقة الصورة التي تدمّر

17-9-2017 | 11:28
برامج الفضائيات التنافسية في الآداب والفنون عن حقيقة الصورة التي تدمّربرامج الفضائيات التنافسية في الآداب والفنون
شريف الشافعي

هل بإمكان بريق الصورة الخاطف، والصوت المجلجل، وتنافسيات الأداء الشفاهي الجهوري، وآليات التسويق الاستهلاكية، بما فيها استدرار تصفيق الجمهور ورصد معدلات "التصويت"، أن تكون عوامل تغذية ودعم وترقية لآداب وفنون إنسانية رفيعة؟

موضوعات مقترحة
الإجابة تأتي بالنفي، فهذه الآداب والفنون ليس من شأن نهضتها أصلًا ولا من دواعي التميز فيها الاتكاء على "أفعل التفضيل" المقيتة، القائمة على المزاحمة، فما بالنا بالمكاتفة والمبارزة، بالمعنى الحرفي العنيف؟
الشعر، الموسيقى، الغناء، حتى مواهب وملكات البراعم الصغار، أوذيتْ أكثر مما أفيدت، بفعل آثار سلبية لبرامج فضائية تنافسية من قبيل: أمير الشعراء، شاعر المليون، ذا فويس، آراب آيدول، ذا فويس كيدز، وغيرها.
بعض الأخطار له علاقة بتدمير المتنافسين "المتصارعين" أنفسهم، خصوصًا من الصغار والناشئة. ومخاطر أخرى، لعلها الأشمل والأعم، تتصل بما تحدثه جلبة الزعيق وأوهام التناطح الميداني كما في سباق الهجن من إقصاء للحساسيات التعبيرية والفنية، العميقة المرهفة، الأمر الذي يأتي بمردود عكسي على الآداب والفنون التي يُفترض أن تدعمها هذه البرامج.
"الأكثر"، لفظة من الممكن إضافتها إلى "مبيعًا"، لتكون مؤشرًا رقميًّا دالًّا، لكن من الصعوبة بمكان القول "الأكثر قيمة" أو "الأعلى فنية"، عند التفاعل مع مجموعة شعرية مثلًا، أو مؤلفات موسيقية، أو أصوات تطريبية حساسة، في فضاء خصب يسع الجميع.
المشهد الدعائي الكلي، بحضوره الضوئي البرقي، ووهجه المصطنع، وصبغته التنافسية المزعومة، وجوائزه المبالغ في عدد أصفارها (ملايين الدولارات)، وآليات الترويج له بكل ما أوتيت الفضائيات من إعلانات وأبواق، ليس هو المجال المناسب بطبيعة الحال للإصغاء الصافي إلى الصوت الداخلي لشاعر خلاق، وتحسس عوالمه الجديدة الأصيلة، الكامنة تحت سطح المفردات، ورؤيته الخاصة الشمولية للعالم، إلى آخر الشواهد المبرهنة على أهمية عمله الإبداعي، وقيمة المنجز الذي أضافه إلى من سبقوه أو عاصروه، وهكذا الحال بالنسبة لفنون الموسيقى، والغناء.
إن تجربة "سوق عكاظ"، لدى العرب، كانت متسقة اتساقًا كاملًا مع طبيعة المنتج الذي كان يجري ترويجه وقتذاك، ومع مفهوم الثقافة الشفاهية لدى القبائل، والنزعة "التفاخرية" لدى البدو في ميادين النزال المختلفة، ومنها مضمار الأدب.
بل إن بعض معاني كلمة "عكاظ" ذاتها، كما ورد في المعاجم وفي ويكيبيديا "تعكَّظ القوم أي اجتمعوا وازدحموا وتحسبوا لينظروا في أمورهم. وعكَظَ خصمه بالحجة أي عركه وقهره. وعكَظَهُ بالمفاخرة: دعكه أي أوجعه إذ ردَّ عليه فخره. وعكظ بالشيء أي افتخر. وتعاكظ القوم أي تعاركوا وتفاخروا وتجادلوا وتحاجوا، أي أدلى كلًّ منهم بحجته في مقارعته قرينه. وقال الليث بن المظفر الكناني: سميت عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة".
كذلك "قيل إن السوق سميت عكاظًا لأن قبائل العرب كانت إذا حضرت موسمها تتفاخر فيه، فيعكُظ بعضهم بعضًا بالفخار أي يغلبه بالمفاخرة. وكل معاني الكلمة صالحة لتعليل التسمية، فالحبس والعرك والعراك والقهر والمفاخرة والدَّعك والدَّلك والمجادلة والمطل والاجتماع والازدحام والتمنع جميعها من أغراض عكاظ ووقائعه، وكانت العرب تعالج في مواسم عكاظ مواضيع كثيرة أبعد من مجرد التجارة، فكانوا يتناشدون ما أحدث شعراؤهم من الشعر ويتفاخرون ويتجادلون ويتنافرون ويفدون الأسرى ويعقدون المعاهدات".
تلك هي الآلية الترويجية التي كانت تلائم آداب وفنون العرب الإنشادية، ومنتدياتهم التنافسية التفاخرية، حيث تكون الغلبة للصوت الأعلى بطبيعة الحال، والنتيجة النهائية في ميدان الشعر مثلًا أن هناك: شعراء قاهرين، وهناك من ينقلبون موجوعين مدعوكين، مردودًا عليهم شعرهم، وفخرهم!
هذه بيئة الثقافة الشفاهية، بكل عناوينها العريضة الكارثية: النقل، العنعنة، الاتباع، الذائقة الجمعية، العصبية، الغوغائية، تقديس الموروث، إدانة العقل، التكرار، التنميط، السطحية، المبالغة، الخ.
من هذه المعطيات البالية كلها، تنطلق برامج الفضائيات التنافسية في مجالات الآداب والفنون، وصولًا إلى مدى أبعد في التدمير، هو الوقوف ضد تطور الإنسانية وحركتها الحرة الطبيعية على أرض الواقع، نحو المستقبل. فمن المعروف أنه لا سبيل إلى ذلك الحراك الحيوي بغير التجديد والتأويل وتجاوز المألوف والخلاص التام من قيود الموروث الشفاهي المكرور، إيمانًا بالثقافة الكتابية، وعناوينها الأساسية: العقلانية، الموضوعية، التمحيص، الضمير الإنساني، الإبداع الخلاق، التوثيق، التطور، الجوهر، الماهية، الخ.
الشفاهية، والبرامج التنافسية التي تدعمها، هي باختصار "البنى الصياغية" المتهالكة، حيث الإبداع التلاميذي بالضرورة، وعلى طول الخط، المجلوب من حقول لا وجود لها على الأرض، لكن هناك فئات من المستهلكين تبتهج عندما يجيب النجباء بإجابات محفورة في الذاكرة، فالنص "الجديد" المتميز هو ذلك الذي يوافق نصًّا محفورًا في الذاكرة، جرى استدعاؤه لفظيًّا بنسق مشابه.
هذه المعطيات، المستقاة في برامج التنافس الفضائي من أجواء عكاظ وروح الثقافة الشفاهية التفاخرية، تتضافر في توليفة الصناعة التليفزيونية مع عناصر تسويقية أخرى، مستدعاة هذه المرة من التجليات الإعلامية الحديثة والمثيرة في عصر السماوات المفتوحة والأقمار الاصطناعية والإنترنت، ومن ثم ترتدي البرامج التنافسية أثواب الإبهار في كل شيء: التصوير، الإضاءة، أسلوب التقديم، الدعاية، التحكيم والتصفيق على الهواء، تصويت الجمهور (على خلفيات الجنسيات والأعراق أيضًا كما لدى قدماء العرب)، الألقاب المجانية: أمير الشعراء مثلًا، الجوائز الأسطورية، مراحل التنافس المتدرجة الشيقة، ردود أفعال المتسابقين عند كل مرحلة، إلى آخر مقومات الحشد البالوني من أجل اختلاق الإثارة والاستلاب واللهاث.
وليس من قبيل الصدفة، ولا الاستسهال المجاني، أن يقتصر ترويج البرامج الفضائية التنافسية على هذه الثيمات النمطية الشفاهية، كما في "أمير الشعراء" و"شاعر المليون" مثلاً، فثمة قصدية تتمثل بوضوح في شروط الاشتراك في المسابقة، حيث لا مجال لقصيدة النثر مثلاً، رغم أنها النمط السائد عربيًّا وعالميًّا، بل إنه لا مجال إلا للشعر الخليلي، مع التركيز الخاص على العمود الكامل، فضلًا عن تحديد "أغراض الشعر" بالتعبير التراثي الضيق، حيث يتم الخلط الفج عند تقييم النصوص الشعرية بين جمالياتها المجردة (إن وجدتْ)، وبين موضوع القصيدة أو غرضها الدعائي المباشر، خصوصًا إذا داعبت حماسة لجنة التحكيم والجمهور بما هو محفور في الذاكرة من شعر القضية الفلسطينية مثلًا أو القومية العربية أو تمجيد حاكم البلاد في الدولة المضيفة.
أمر آخر يُبرز ويُبرّر ما وراء هذه الانتقائية المقصودة، فمثل هذه البرامج الفضائية التنافسية تتولاها عادة جهات حكومية أو تخضع لإشراف وإدارة مؤسسات رسمية أو شبه رسمية، ورأسماليات بترودولارية، متصالحة مع السلطات أو خاضعة لإشرافها وتوجيهها على نحو مباشر. من هنا، يصير منطقيًّا تفهم ذلك التكريس لما هو قائم، ورفض كافة أشكال الإعمال الذهني والتمرد على الثوابت، ولو على الصعيد الجمالي، وذلك لخدمة رجعيات وكيانات مركزية سلطوية ترى في الخمول ملاذًا آمنًا لها، وفي التجديد على أي مستوى من المستويات تهديدًا لاستقرار أركانها.
أخيرًا، واستكمالًا لجوانب الطرح التحليلي من زواياه المختلفة، بقي الوقوف على بعض ما يراه مختصون في الإعلام والرأي العام بشأن هذه البرامج التنافسية، لاسيما التي تخاطب الصغار والناشئة.
الدكتور أيمن منصور ندا، أستاذ الإعلام والرأي العام بكلية الإعلام جامعة القاهرة، يشير في حديثه لـ"بوابة الأهرام" إلى عدم وجود اتفاق على اتجاه التأثيرات المتعلقة بالمشاركة فى برامج الفضائيات التنافسية أو بمشاهدتها؛ ففى الوقت الذى ترصد بعض الدراسات التأثيرات الإيجابية لها، تبرز دراسات أخرى سلبيتها والأضرار المترتبة عليها. وإذا كان لنا أن نرجح وفق عدد الدراسات، فإن التأثيرات السلبية أكثر شيوعًا واحتمالية للحدوث من التأثيرات الإيجابية.
بالنسبة للفريق الذي يشير إلى التأثيرات السلبية، يقول د.أيمن منصور، فيرى أن هذه البرامج تؤدى إلى تأثيرات سلبية عديدة على المشاركين فيها لا سيما الأطفال، إذ تؤدى إلى "تدمير الجهاز العصبي للأطفال"، أو على أقل تقدير إحداث توتر فيه. وإذا كان بعض الأطفال المشاركين يظهرون قدرات غير عادية فى المحافظة على انضباطهم الانفعالي، فإن كثيرين منهم يفقدون هذه القدرة، ويفشلون في ضبطه لاحقًا.
كذلك، فإن الأطفال غير المشاركين، الذين يشاهدون هذه البرامج، يعيشون في أحلام يقظة مستمرة، دون العمل الحقيقي أو بذل جهد حقيقي، وبالتالي تصبح هذه البرامج ومشاهدتها وعاء تفريغ لطاقات الأطفال، وتؤدي إلى "التبلد العاطفي"، وإلى "التأخر الدراسي".
وفي دراسة أجراها فاليراند وزملاؤه حول برامج المنافسات بين الأطفال وتأثيراتها، وجدوا أن لها تأثيرات سلبية على الأداء العام، فالأطفال الذين اشتركوا في هذه المسابقات يفقدون القدرة على الإنجاز في الظروف العادية، وتقل لديهم المحفزات الدراسية.
كذلك، وفق د.أيمن منصور ندا، فإن الباحثين المتخصصين في التأثيرات طويلة المدى للتعرض للتليفزيون وبرامجه، بخاصة على الأطفال، وما تسمى بتأثيرات الغرس الثقافي "Cultivation Theory"، أشاروا إلى أن التعرض لهذه البرامج (المسابقات) يؤدي إلى تبني الأطفال بعض القيم السلبية مثل الإحباط، والاعتقاد في المادية، ووضاعة العالم، والخوف، والانعزالية، والعنف، والسادية، والتسلطية، وغيرها من التأثيرات السلبية.
أما بالنسبة للباحثين المتخصصين في التنشئة الاجتماعية، فيشيرون إلى أن تعرض الأطفال لهذه البرامج من شأنه أن يعيق عمليات التنشئة الصحيحة، وخلق "أدوار حياتية" مشوهة، ونماذج غير طبيعية يتم تقليدها بشكل غير عقلاني.
وبصفة عامة، كما يوضح د.أيمن، يشير البعض إلى أن هناك علاقة بين حجم التعرض المرتفع لهذه البرامج والتخلف العقلي "Mental Illness"، وغيرها من الأمراض المتعلقة بالذكاء وبالقدرة على التفكير الطبيعي. في المقابل، فإن بعض الدراسات تشير إلى التأثيرات الإيجابية لهذه المسابقات، منها خلق الدافعية للتقدم، والتنافس الإيجابي، وارتفاع التركيز الدراسي، وارتفاع درجة الخيال وخلق عوالم إبداعية، وكذلك، فهي أداة متعة حقيقية، ورفع الحالة المزاجية الإيجابية، وتغيير الحالة النفسية، وغيرها. وهناك فريق يرى أنه لا توجد تأثيرات حقيقية ذات دلالة لهذه البرامج، فهي "مثل مضغ العلكة بالنسبة لعيون الأطفال"، مجرد عادات وأشياء تتحرك أمامهم بدون تأثيرات حقيقية.
من جهته، يعتبر الكاتب ماهر مقلد مدير تحرير صحيفة "الأهرام" أن برامج المسابقات العالمية، التي يجري تعريبها وبثها على الفضائيات، هي أعمال إنتاجية تليفزيونية ضخمة، ذات نتائج إيجابية على مستوى التأثير والمشاهدة، قبل الحديث عن السلبيات التى تأتي بها. ويقول مقلد: هي تخلق حالة من المنافسة والرغبة في التحدي والفوز وإبراز القدرات والملكات الخاصة للمتسابق، غير أنها تصبح غير مبررة عندما تفتح الباب أمام الصغار للاشتراك في منافسات تتعدى المراحل العمرية الواجبة. وطبيعي جدًّا أن تكون الأهداف تجارية، ما دامت الهيئات التي تنظمها هي هيئات تخطط للربح المادي وحساب المكاسب والخسائر.
ويتساءل: هناك آراء كثيرة تتحفظ على هذه البرامج، وهي تحفظات طبيعية، لكن السؤال في حال عدم ظهورها: ما البدائل الجماهيرية الواسعة أمام بعض الموهوبين للتعبير عن مواهبهم؟
..
للتواصل:
[email protected]


برامج الفضائيات التنافسية في الآداب والفنونبرامج الفضائيات التنافسية في الآداب والفنون
كلمات البحث
اقرأ ايضا: