تعد ثنائية الجمال/ القبح، أو بالأحرى ثنائية الجمال/ كراهية الجمال، من أكثر الموضوعات التي تشغل مساحة كبيرة سواء في الدراما أو السينما خلال السنوات الأخيرة؛ بخاصة مع هذا التصاعد الدائم والمستمر للتطرف بأنواعه، الكاره لكل جمال، والمقدس للقبح.
موضوعات مقترحة
ومع ظروف كالتي تشهدها الآن، لا مصر وحدها بل العالم أجمع، من تنامي التطرف الديني ونمو إيديولوجية كارهة لكل ما هو جميل وفي مقدمته أحد أكثر أنماط النشاط البشري تعبيرًا عن حرية البشر، أي الفن، مع هذه الظروف، تفرض إحدى التيمات، أو الأنماط، نفسها كقاسم مشترك أعظم بين غالبية الأعمال التي تتناول هذه الموضوع، ليبدو غالبيتها تنويعًا على لحن واحد ويصبح الخوض في هذا الطريق محفوفًا بخطر تكرار ما قيل من قبل.
لذلك يبدو أن الكاتب محمود جمال، في مسرحيته "يوم أن قتلوا الغناء" أراد الهروب من هذا النمط الذي فرض نفسه لأسباب عدة على هذه النوعية من الأعمال.
يصنع جمال قالبًا أسطوريًا للعمل الحاصل على جائزة أفضل عرض في الدورة العاشرة للمهرجان القومي للمسرح، من خلال الشقيقين مدى وسيلبا اللذين يتخذان طريقين مختلفتين بعد وفاة أبيهما، فيتواصل الأول مع الكون – الذي كان مجهولًا لكليهما بشكل كبير- بالغناء، متفاعلًا مع موسيقى الوجود العفوية التي تشترك فيها عناصر الطبيعة بعفوية مطلقة فيحب الغناء. فيما تؤدي الصدفة بسيلبا إلى الوقوع أسيرًا لإله وهمي يغذيه هو بنفسه، في داخله وداخل أعوانه، ليأمره بوأد الغناء وقتل كل من يصدح متفاعلًا مع السيمفونية الكونية.
هذا القالب الأسطوري يمنح صناع العرض مساحة خاصة للحركة مستخدمين عناصر العرض المسرحي لخلق رؤية جديدة على مستوى آلية طرح الفكرة للخروج بلحن جديد مفارق للحن المكرور والمعتاد. والمقارن بين أحد أعمال محمود جمال المبكرة ككاتب مسرحي وهو "1980 وأنت طالع" وبين هذا العمل بإمكانه أن يلحظ تطورًا على مستوى الكتابة المسرحية وامتلاك أدوات هذه الكتابة، فيما يخص الحبكة وترابطها، أو الحوار وصناعة الشخصيات وانضاجها، الأمر الذي يجعل انسحابه اعتراضًا على حجب جائزة أفضل نص أعد خصيصًا للمسرح في الحفل الذي أقيم أواخر الشهر الماضي، يجعل ذلك ربما قرارًا متسرعًا، مع ما يحمله "يوم أن قتلوا الغناء" من بشرى بأن القادم من أعمال سيكون أكثر تكاملًا.
يستفيد العمل من الحكاية الشهيرة التي تناولتها الكتب المقدسة وهي حكاية سفينة نوح، إذ يبني سفينته في مناخ غير مهيأ، في عملية تبدو عبثية، لا يدعمها سوى إيمانه بأن الطوفان آت لا محالة. هكذا يبني أنصار الغناء الذين لطالما قمعهم سيلبا بجنوده وسيوفه سفينتهم التي ستحملها الفكرة.
يعد اختيار زمن المسرحية التي تقع في لحظة من لحظات طفولة الوجود البشري – كما يخبرنا بذلك صوت الفنان نبيل الحلفاوي- أحد عوامل الخروج بالعمل من النمط المعتاد للصراع بين المتطرف دينيًا والمجتمع ( مسرحية "الجنزير" للكاتب محمد سلماوي نموذجًا) أو الصراع بين المثقف والمتحضر والهمجي الجاهل (مسلسل "الراية البيضا" للراحل أسامة أنور عكاشة نموذجًا).
هذه البقعة الزمنية الواقعة خارج حدود التأريخ البشري المعروف، بالإضافة للمكان المجهول والذي لا تمثله سوى أرض بدائية، يعطيان العمل مسحة من التجريد تخرج به من أسر الواقع الآني وقيود الظروف التاريخية الحالية التي قتلت بحثًا وتفنيدًا.
تتضافر عناصر العمل في تدعيم هذه الرؤية الأسطورية بدءًا من الديكور الذي أعده د.محمد سعد، أستاذ الديكور بقسم المسرح بكلية الآداب جامعة حلوان، الذي رغم بساطته يقدم حالة بصرية تدمج الجمهور في قلب الأسطورة، بصنم إله سيلبا المزيف القابع دائمًا في الأعلى، يقبع أسفله مذبحه المقدس.
بالإضافة لما يسمح به تصميم الديكور من حرية في استغلال قطاع أكبر من مساحة خشبة المسرح للتعبير الحركي الذي أعده عمرو باتريك. وإن كان الممكن التوقف أمام إحدى الصعوبات التي تواجه الجمهور في متابعة العرض بصريًا من خلال بضعة مشاهد يقف فيها طرفا الصراع سيلبا/مدى أو آريوس والفتاة المطربة بعد ذلك في أقصى طرفي المسرحي، الأمر الذي يشكل صعوبة للمشاهد في الإلمام بالمشهد ككل؛ نظرًا لمساحة قاعة العرض بمسرح الطليعة واقتراب الصفوف الأولى من خشبة المسرح بشكل كبير.
ومما يستحق التوقف عنده شخصية آريوس، الذي يعد الشخصية المحورية حيث يمثل سيف سيلبا في مواجهة الغناء، المحرم والمكروه والمجرم من الغناء المزيف. آريوس – ابن السيدة التي راحت ضحية افترافها "جريمة" الغناء في بداية العرض- يقدم صورة المتطرف الميداني – إن جاز التعبير- الذي يقوم على تنفيذ العقوبة على من يتجاوزون الأوامر بعدم الغناء.
وتبدو شخصية آريوس أكثر غنى من مثيلاتها في الأعمال التي ناقشت الموضوع نفسه، فهو يستمع لنداء خفي أو لموسيقى خفية تشوش نفسه الملوثة بالدماء، وتصارع في داخله جذورعبادة إله القبح المزيف. ويبدو لوهلة كأنه يمارس أفعاله الدموية رغبة في إسكات الصوت غير المفهوم بالنسبة له – غناء أمه المحلقة حوله رغم القتل- أو غيرة من عدم تمتعه بالحب الذي يحظى به أنصار مدى – وربما يتجلى ذلك في موقفه المرتبك من العاشقين.
ومما يحسب لمؤلف العمل استمرار هذا الصراع داخل آريوس بصورة من الكر والفر، بين القبح الذي زرعه فيه سيلبا، والجمال الذي غرسته فيه الفطرة ويغذيه صوت أمه، هذا الاستمرار الذي يجعل من الصعب الوقوف على نقطة تحول حاسمة تمر بها الشخصية. فآريوس يمر بلحظات ضعف يبدو فيها أنه سيتراجع عن موقفه الدموي، ثم يرتد سيرته الأولى، يشفق على العاشقين، ثم يقتلهما، يرق قلبه لكلمات مدى، ثم لا يلبث أن ينهي حياته عند استمراره في الغناء.
"يوم أن قتلوا الغناء" بطولة: ياسر صادق، د.علاء قوقة، حمادة شوشة، طارق صبري، هند عبد الحليم، محمد ناصر، آداء صوتي للفنان نبيل الحلفاوي، موسيقى أحمد نبيل، ديكور د.محمد سعد، ملابس مروة منير، تعبير حركي عمرو باتريك، إخراج تامر كرم.## ## ## ## ## ##