وفق طريقتين يعيش الإنسان حياته: النظام أو العشوائية ولا درجات بينهما، فإما أن تكون منظمًا أو عشوائيًا، ولا يمكن الجمع بينهما. (هل يمكنك أن تجمع بين الكفر والإيمان في آن واحد؟)، النظام كالدين، ينزل على فرد وتتأكد قيمته بانتشاره في قلوب البشر، ويفقد الكثير من قيمته إذا ما بقي حبيس محيط قلة من الأفراد، وإذا كان الدين مقومًا من مقومات الحياة فإنه في حد ذاته نظام يتحقق في الحياة زمانها ومكانها، ويمنح الناس القدرة على حياة معروفة توجهاتها وأهدافها ومساراتها.
موضوعات مقترحة
الدين يعلمنا النظام فيكون بمثابة تطبيق عملي على ما تعلمناه من الدين، ولا يقاس تدين الإنسان بما يحفظ من التعاليم والمواعظ ولكن بما يطبق وبقدرته على استحداث أنظمة تيسر له الحياة وفق مستحدثاتها، فكما يستحدث الإنسان القوانين المستمدة من روح الشرائع يستحدث الأنظمة المستمدة من الروح نفسها بحيث تكون الأنظمة في النهاية خادمًا للقيم ومرسخة لها.
هو ليس نظرية يصعب تطبيقها وإنما هو وعي أو هو فطرة على الإنسان أن يدركها إذا ما أراد الحياة والإرادة قائمة لا محالة في كيان الإنسانية، لقد خلق الله الكون وفق نظام دقيق أدركته عقلية البشر وسعت إلى تطبيقه فأنشأت المدن بوصفها نماذج مصغرة للكون ، غير أن النموذج قد يتسع – بتفاصيله المتزايدة كل يوم - مما يجعل عملية استحداث النظام مطلبًا جديرًا بالرعاية ، وقد ثبت بالتجربة (تجربة البشرية على مدار تاريخها الطويل) أن النظام قد يقترحه فرد ولكن لا قيمة له مالم تعمل به جماعة البشر التي يضمها مكان واحد وأزمنة متفرقة، وبقدر تحققه تكشف الأمم عن تقدمها ومساحة تحضرها، راقب حركة الناس في الشارع في حياتهم العامة، أو تواصلهم في حياتهم الخاصة.
لك أن تراه مجموعة من المسلمات والبديهيات التي لا يستقيم الأمر إلا بها، مسلمات تنظم حياة الإنسان مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين، استهدافًا لصالح تنظيم مجموعة لا تحصى من التفاصيل، التفاصيل التي لا نجاح للتعامل معها إلا وفق نظام معتمد لا يمكن للحياة أن تتخلى عنه أو تنحيه جانبًا، فعندما يتخلى الناس عن النظام فهذا يعني تحقق العشوائية بكل أشكالها، والعشوائية تعني هدم النظام الذي تأسست عليه الحياة وما كان لها أن توجد دونه.
إن أشكالاً من العشوائية تسيطر على حياتنا، والعشوائية مضاد النظام، وهي مخالفة لكل الشرائع والنواميس والدساتير والقوانين واللوائح والمبادئ والقيم.
في الوقت الذي بدأ فيه العالم (وقطع شوطا طويلا في ذلك) بدأ في التخلص من السجلات الورقية وما تتطلبه من مساحات تخزين وأعباء تأمين مازالت مؤسساتنا تصر (إصرارًا مريعًا منقطع النظير) على البقاء في نطاق السجلات الورقية والصناديق الخشبية والمخازن الحديدية، اذهب إلى أية مؤسسة (حكومية خاصة )، المستشفى (قصر العيني مثلا بوصفه أكبر مستشفى حكومي في مصر، أو أي مستشفى من مستشفيات التأمين الصحي)، المدرسة ( لا فرق بين مدرسة حكومية أو خاصة أو نموذجية حتى ) ، الجامعة (أي جامعة يمكنك التواصل معها )، الشارع (أي شارع في القاهرة أو الأقاليم )، وسائل المواصلات (المترو خاصة) ، البيت (عندها يمكنك النظر في المرآة لترى مساحة النظام أو العشوائية وتصارعهما في ذاتك )، اختر لحظة ما ، خمس دقائق فقط راقب فيها أي مشهد تختاره من الحياة التي تعيشها عندها ستجد ركامًا من العشوائية ، ذلك الركام الذي لا مجال لإعادة هيكلته أو لإعادة بث روح النظام فيه إلا بوعي من النقد.
وعلى سبيل المثال في كثير من بلدان العالم تعمل المستشفيات وفق منظومة إلكترونية دقيقة، تتيح للطبيب متابعة حالة مريضه منذ تردده على المستشفى وعلاجه في أي تخصص وهو ما يتيح للطبيب المعالج أن يكون على دراية بما يعانيه المريض وما صرف له من أدوية بوصفها منظومة تجعل للمريض تاريخًا يجعل الطبيب على بينة بحالة المريض بما من شأنه أن يقلل من فرص الخطأ ، الخطأ في وصف أدوية جديدة لمريض يعتمد على أدوية سابقة قد يكون من الخطر تناول أدوية جديدة تؤدي إلى كوارث صحية ، جدير بالذكر أن كثيرًا من دول العالم تجرم على الصيدليات صرف أدوية دون أمر طبيب ، كما يستحيل أن يمارس صيدلي أو ممرض حتى إعطاء حقنة لمريض وخاصة حقنة الوريد، وجدير بالذكر أن مجتمعات كثيرة قصرت وصف الدواء على الصيدلي و قصرت عمل الطبيب على التشخيص ، والحال هكذا راجع حال مجتمعات عربية (مسلمة ) ذات تاريخ (عريق) تصر على البقاء في مربع العشوائية المزمنة ، فالعشوائية شأنها شأن النظام كلاهما نوع من الحالات المزمنة غير أن العشوائي يمكنه أن يكون منظمًا إذا ما توافر له الوعي النقدي الذي يجعله قادرًا على إدراك خطورة ماهو عليه وقيمة ما يجب أن يكونه.
النظام ليس ترفيهًا ولا هو شكل من أشكال الرفاهية، النظام حالة من التعود على الصواب، على ممارسة الحياة وفق قوانين صالحة لكل زمان ومكان، ووفق يقين راسخ (لابد أن يكون كذلك) بأن إقامة النظام والحفاظ عليه مسئولية لا تقل عن إقامة الفرائض الدينية التي لا تحقق لها إلا بالنظام : فالصلاة نظام ، والصوم نظام ، وحركة الأفلاك نظام ، وتعاقب الليل والنهار وحركة الطيران المستمرة على مدار الساعة بين أنحاء المعمورة نظام ، والشرائع نظام ، والدساتير نظام ، وخلق الإنسان نظام ، وولادته وموته نظام.
إن سؤالا منطقيا الذي يطرح نفسه في النهاية، ما نصيب مجتمعاتنا من النظام ، إلى أي درجة يكون وعي الأفراد والمجتمعات به ؟ وأي مؤسساتنا تتحقق فيها منظومة واضحة المعالم؟