Close ad

مستويات السرد في رواية "نقطة نظام" لصبحي موسى

28-4-2017 | 11:06
مستويات السرد في رواية نقطة نظام لصبحي موسىصبحي موسى وروايته "نقطة نظام"
نديم الوزه

تشكّل رواية "نقطة نظام"، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية هذا العام 2017، للروائي المصري صبحي موسى، شكلًا ملتبسًا ومركبًا في السرد الروائي المعتاد لكشف مرحلة زمنية، يفترض - حسب تصريح الراوي - أنها السنة السابقة لتنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم، ويمكن تفكيك هذا التركيب إلى أربع طبقات أو مستويات سردية قبل التوقف عند بناء السرد وعمران الرواية.

1- مستويات السرد الأدبية:

المستوى الأول: ينتمي إلى أدب التغريب – نسبة إلى المسرح التغريبي لدى برتولد بريخت - ويظهر في بداية الرواية من خلال رغبة السارد بتأليف رواية عن أهل قريته، وهي قرية إن كانت نائية، مجهولة، ولا علاقة لها بالنظام سوى نقطة شرطة يساوي وجودها عدمها في أحداث الرواية، إلا أنّ القرية في ذاتها – كما يحاول الراوي أن يلعب في أهميتها- تصبح مركز ثقل النظام من حيث استمراره أو زواله. فيتحوّل اهتمام السارد باهل القرية من البعد النستالجي إلى أبعاد أخرى سوف أشرحها في المستويات التالية. وأهمية هذا المستوى تواصلية، ولا سيما أنه يدخل القارئ في ورشة الروائي الفنية، ويكسر استغراقه في الأحداث، فيضطر إلى التفكير في ضرورتها الدرامية، ومحمولاتها الدلالية والمعرفية، لولا أنّ ذلك يحدث لمامًا وحسب؛ بسبب أنّ السارد ذاته سوف تأخذه الأحداث في مجراها، وتغرقه في أقدارها.

المستوى الثاني: ينتمي إلى أدب التحري والجريمة، ومن خلال هذا المستوى يعمل الروائي أو سارده على منح القرية حضورًا استثنائيًا من خلال انفجار ينتجُ عنه اختفاء حي الشروة، أحد أحياء قرية السارد، وذلك حين وصوله إليها، بل لحظة عناقه لوالده. وربما لأنّ هذا الحيّ للأثرياء الجدد في القرية، من أطباء ومهندسين وأصحاب حرف كانوا يعملون في الخليج، يصل خبر اختفائه إلى رئيس الدولة الذي يطلب من وزير داخليته التحرّي عن أسباب الانفجار واختفاء الحيّ، هذا بالإضافة إلى تحريات السارد، بصفته صحفيًا من جهة، وبصفته مختلقًا لأحداث الرواية من جهة أخرى.

المستوى الثالث: ينتمي إلى الأدب النقدي، وقد يكون نقد زوجة السارد لروايته، وأصدقائه لقسم منها، أحد تجليات هذا المستوى، لولا أنّ ذلك يبقى ضمن اللعبة الفنية لتغريب الرواية الذي شرحته في المستوى الأول، بينما يظهر هذا المستوى النقدي بشكل واسع من خلال تسليط الضوء على عمل ضباط الأمن:

أولًا: من خلال تنصتهم على وسائل الاتصال بلا مبرّر قانوني سوى قمع الحريات الإعلامية والسياسية، ومن أمثلته تعرض زوجة السارد للاعتقال والضرب من قبل الأجهزة الأمنية، ومنعها من مزاولة العمل الصحفي بعد ذلك؛ بسبب فبركتها لتحقيق صحفي يسخر من بعض المسؤولين. وكذلك منع السارد من مزاولة عمله في رصد أخبار الانفجار وتتبع أسبابه؛ كونًه صحفيًا في أحد مكاتب جريدة خليجية في القاهرة.

ثانيًا: من خلال فساد عملهم، ومثاله اللواء المكلف بقيادة حملة التحقيق في أسباب الانفجار واختفاء حيّ الشروة؛ إذ يتبين أنّ هذا المحقّق حين يعجز عن كشف الأسباب الحقيقية للجرائم الموكلة إليه، ومعظمها جرائم إرهابية، يقوم باختراع هذه الأسباب وفق ديباجة منطقية مع توفير عدد من الشهود الزور للتوقيع على أحداثها التي افترضها خياله، ويقدمها للمسؤولين الذين يقومون بترقيته جريمة بعد أخرى ما دام أنّ ما يخترعه يرضي الرأي العام، ويطوي ملف الجريمة بلا أية فضائح. وهذا ما سيفعله في جريمة اختفاء حي الشروة؛ فبعد استماعه للعميد الذي أوكله بالتحقيق المباشر عن القضية، وعدم اقتناعه بما توصل إليه من حديث الأهالي بأنّ سعيد ميرزا والجنّ كانوا وراء اختفاء الحيّ، يعفي العميد من مهمته، ويقوم بكتابة محضر تحقيق متخيل يرجع أسباب الانفجار إلى شجار بين عصابات المخدرات وعائلة أبي النمرس، تصاب من خلاله سيارة نقل لأسطوانات الغاز بطلق ناري طائش فتنفجر مخلفة دمار حي الشروة بأكمله.

ذكر عائلة أبي النمرس سوف يتيح للسارد نقد الشرائح الاستبدادية والفاسدة منذ زمان الرئيس جمال عبد الناصر، وبلطجتهم، وكسبهم غير المشروع من خلال بناء المساجد، إلى حدّ الكشف عن علاقات تجار المخدرات والآثار والأسلحة بأجهزة الأمن ورجال الحزب ومسؤولي الدولة ونواب محلس الشعب، وما تخللها من علائق مبهمة مع إسرائيل إن كان مع العصابات أو مع أجهزة الأمن.

المستوى الرابع: ينتمي إلى الأدب الشعبي، وتظهر بوادره مع حكاية الطفل إبراهيم المجذوب ومعلمه الشيخ السني في الكتّاب. حيث تظهر معجزات الطفل وبركاته بعد زعله من الشيخ السني لقسوة الأخير عليه، فيصيب الطفل ذراع الشيخ التي آذته بداء عصبي وتورم، ليشفيها بعد ذلك بطريقة متداولة بين العامة عن دراوشة الصوفية. ولكن هذا لا يمنع أن يوطّد هذا الزعل العلاقة بينهما في تحالف دائم لأصحاب النهار - ينضمّ إليه والد السارد و عمه - ضدّ تحالف أصحاب الليل الذي يضمّ سعيد الميرزا والجنّ وينضم إليه رجال العصابات والنظام.

وما دام أصحاب الليل أشرارًا بطبيعتهم، وثمّة حكاية قدرية تنبئ بظهور المخلّص من الشرّ لتقضي على قوتهم الحالية، يحاولون من خلال ما يمتلكونه من سحر وعلاقات مع عالم الجنّ أن يتلاعبوا بزمن هذا الظهور على أمل التحكم بالقدر، وجعله لصالحهم من خلال خطة تقوم على سبع نقاط. وما دام أنّ أصحاب النهار أخيار بطبيعتهم، وأنّ النقطة السابعة التي وضعها الأشرار تقضي بمصرع واحد من الأخيار هو السارد لا غيره، يتصدون لهذه الخطة بما يمتلكونه من بركات الشيخ ابراهيم المجذوب وذكاء الشيخ السني الذي يتماوت ليجعل السارد يحييه على مرأى من جميع الناس بما يشيع الاعتقاد بأنه المنتظر، فتفسد بذلك خطة الأشرار، ويتحرّر الناس من خوفهم، و يندفعون بصيحة واحدة لإسقاط النظام!

2- بناء الروية وعمرانها:

يقوم البناء البلاغي لعمران الرواية في "نقطة نظام" على عدّة أعمدة أهمّها الشيفرة التي تتضمن النقاط السبع. غير أنّ هذه الرواية ليست ملغزة، و ا تدور أحداثها حول فكّ لغز الشيفرة واستيضاح دلالاتها، إلا بشكل إجرائي، إجراء اتخذه الروائي من خلال تمّهل السارد في ذكرها مباشرة. فهي مكشوفة، ومعروف نصها من قبل زايد عم السارد، الذي شارك الميرزا في أعمال السحر لفترة من الزمن، قبل أن ينضمّ نهائيًا إلى حلف النهار. وأهمية هذه الشيفرة أو معرفتها ضرورية، بل أساسية، في فهم أحداث الرواية؛ ذلك أنّ الأحداث التي تبدو غرائبية ولا تبرّر نفسها من خلال النسق الدرامي الواقعي للأحداث، سوف تجد تبريرها من خلال هذه الشيفرة. مثال ذلك قدوم سعيد ميرزا من المغرب وتعيينه قائمًا على محطة القطار في طرف القرية، وذبحه للضو وزوجته في الأسبوع الأول من زواجهما، في غفلة عن القرية، لن يجد مبرره الدرامي إلا حين معرفة النقاط السبع، ليجد تفسيره في النقطة الأولى منها. وكذلك اختفاء حيّ الشروة ما هو سوى تنفيذ للنقطة السادسة، وهكذا بقية الأحداث والنقاط.

ولا يمكن تفسير نجاح سعيد ميرزا والجنّ في تنفيذ مهماهم اعتمادًا على السحر وحده وإلا تحوّلت الرواية إلى حكاية مجانية لا محمول معرفي لها. و لذلك لا تكتفي الرواية بالبناء على شيفرتها من غير أن تكشف الوعي المحرك لشخوصها في الوقت نفسه، فإذا كان تصيد الفرص ونقاط الضعف من مسالك أصحاب الليل لتحقيق غاياتهم الشريرة هو ما مكنهم من الضو، بسبب شهامته و كرمه وشجاعته – الصفات التي جعلته وحيدًا من بين أهل القرية يقبل استضافة الميرزا في تلك الليلة العاصفة. فإنّ جهل أهل القرية الذين رفضوا أن تمرّ سكة القطار في أراضيهم، هو ما جعلهم بعزلة عن العالم الحديث، وجعل الميرزا يقوم بأفعاله في غفلة عنهم. وكذلك أتاح فساد النظام وعصابات التهريب المجال واسعًا لأصحاب الليل كي ينفّذوا من خلالهما ما يحلو لهم من خطط، ومثال ذلك بناء حيّ الشروة واختيار سكانه من المثقفين التقنيين المسالمين الذين كانوا يعملون في الخليج، ولا يملكون أيّ فهم لعمل سعيد ميرزا، أو أيّة طاقة فاعلة لمقاومته.

إضافة إلى بلاغة الشيفرة، يمكن رصد المكان وبلاغته من ناحيتين: الأولى من خلال أراض تحت سيطرة أصحاب النهار مثل درك النجار الذي طلب إبراهيم المجذوب من والد السارد أن يبني فيها لحمايتها من الجنّ والعفاريت.

موضوعات مقترحة

ومن خلال أراضي يتحكم فيها أهل الليل مثل الشروة التي ولد فيها حسان من امرأة غجرية وأب مارد، على هيئة طفل عجوز لا يلبث أن يموت بعد أن ينبئ بظهور المنتظر وفق خطة أهل الليل.

وهذا الفهم البلاغي للمكان يوضح توازن القوى بين أهل الليل والنهار، ويوضح سبب عدم مقدرة أجهزة الأمن على حسم الصراع بينهما لو أرادوا، لولا أنّ أمكنة القرية الأخرى بقيت متروكة للعوامل الزمنية، لفساد العصابات وأهل الحكم.

وربما هذا ما دفع اللواء إلى عقد اتفاق مع الميرزا وحلفائه من العصابات قبل أن يترك مهمته في القرية للالتحاق بالحرس الجديد الذي يؤيد قضية توريث الحكم في القاهرة لتولي منصب نائب الوزير، فيتمكن الميرزا من اختطاف بقية الضباط الذين حاولوا القضاء على عصابات التهريب وعصابات سرقة الآثار.

على أنّ تعاون أحد الضباط مع أهل النهار، وهو العميد الذي اكتشف حقيقة اختفاء حي الشروة من قبل أصحاب الليل، مكّن أصحاب النهار من إحباط عمل الميرزا، و خروج الناس الذي تجمعوا في أرض النجار وثم في الجوامع ليشهدوا ظهور المنتظر على يد الشيخ السني، ومن ثمّ ليلتحقوا بثورة القاهرة التي أطاحت بالحرس الجديد وخطته في التوريث، بما يشكّل استعارة بلاغية بين أهل الحكم وأصحاب الليل. يقابلها استعارة الشعب الثائر وأهل النهار.

3- حوامل البناء وبلاغته:

يبقى ما تقدّم وجهة نظر الروائي الفنية فيما حدث في مصر قبل عام من تنحي الرئيس مبارك وسقوط مشروع التوريث حقيقة. وأن تركّز الرواية على فساد الأجهزة الأمنية، فهذه فضيلة وحدها، لولا أنها مشفوعة بعدّة فضائل فنية قد يكون أبرزها سرد التفاصيل، تفاصيل أصحاب الليل والنهار وعوالمهم الغرائبية التي يرويها السارد بمهارة فائقة تقارب المشهد السينمائي الواقعي، ومع ذلك تحتاج إلى تغييب العقل لتصديقها، أو تفاصيل الواقع اليومي للناس التي جاءت استكمالًا أو ترميمًا للمستوى النستالجي الذي لجمه مستوى التغريب في البداية.

وربما صار واضحًا أنّ المستوى التغريبي الذي بدأت به هذه القراءة، والذي يفترض أن يكون بناء الرواية دراميًا، ولا سيما أن الروائي يلجأ إلى تقطيع أحداثها عشوائيًا قد تراجع بدوره، ليكون بناء الرواية أقرب إلى البلاغة الما بعد حداثوية، أو إلى الحداثة العليا حيث الرواية استعارة تاريخية أكثر مما هي محاكاة للتاريخ أو كشف لسيرورته وصيرورته بالمعنى المادي عند جورج لوكاتش مثلًا، ولكن ماذا يفعل الروائي إذا ما كان واقع التاريخ الذي يرويه هو خاضعًا للوعي البلاغي الغيبي أكثر من أي وعي آخر؟

وإذا كانت الإجابة أو الإجابات على هذا السؤال تفتح الحوار حول تعدّد التأويلات واللا حسم في الرؤية إلى المستقبل، شأن أعمال صبحي موسى التي قرأتها: "رجل الثلاثاء" أو "الموريسكي الأخير"، بما يشي بالمهمات الجسام التي يلقيها على كاهل روايته. فإنّ تعدّد المستويات وغناها يشي بمقدرة استثنائية على التأليف بين الأضداد حتى الشكلية والفنية منها، وعلى جمع المختلف والمتناقض من الرؤى في توازن نادر لا أدري هل هو متقصد من لدن الروائي أم هو منفلت من فيض عبقريته، ولا يستطيع التحكم به ما دام يقول شيئًا زائدًا لم يكن يقصده لولا فرط صدقه الفني على الأقل، وهذا الشيء الزائد هو ما يمنح أعماله فرادتها بالنسبة لي، ويجعلني أعيد قراءتها مرة وأخرى، كأن يكون في هذه الرواية بحث عن سبب الإخفاقات في الربيع العربي أكثر من التأكيد على نجاحه؟!
------

نديم الوزه
(كاتب وشاعر من سوريا)

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة