Close ad

57 عامًا شاهدًا على الكفاح "السد العالي" رفض الضغط الأمريكي لتقييد الثورة.. وتقبل التمويل الروسي لترويض النهر

26-1-2017 | 17:57
 عامًا شاهدًا على الكفاح السد العالي رفض الضغط الأمريكي لتقييد الثورة وتقبل التمويل الروسي لترويض النهرالسد العالي
أحمد سمير

"الحكاية مش حكاية السد.. حكاية الكفاح اللي ورا السد"، التي ظلت خالدة -وستظل- على مدى 57 عامًا، منذ انطلاق الشرارة الأولى لأعمال بناء السد العالي في 9 يناير 1960.

إدراك المصريين لأهمية النيل منذ القدم، كان السبب في إقامة مشروعات التخزين "السنوي" على مجرى النيل، والتي تجسدت لبناتها الأولى في خزان أسوان؛ للتحكم في إيراد النهر المتغير، إلا أن هذا التخزين لم يكن كافيا للسيطرة على النيل، الذي يختلف إيراده من عام لآخر، صعودا وهبوطا، تزداد خطورة الاعتماد عليه في سنوات الإيراد المنخفض؛ لتعريضه الأراضي الزراعية للبوار.

لذا؛ "كان طبيعي نبص للنيل اللي أرواحنا في إيديه.. وميته في البحر ضايعة والصحاري في شوق إليه"، فهذه الكلمات قد جسدت النهج الذي خططت له القيادة المصرية آنذاك، بإنشاء سد ضخم على النيل لتخزين المياه في السنوات ذات الإيراد المرتفع للنهر؛ لاستخدامها في السنوات "العجاف" ذات الإيراد المنخفض.

بدأت دراسات إنشاء السد العالي في 18 أكتوبر 1952، بعدما تقدم المصري اليوناني الأصل المهندس "أدريان دانينوس" إلى قيادة ثورة 1952 بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان؛ لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه.

في أوائل عام 1954 عرضت شركتان ألمانيتان هندسيتان تصميمًا للمشروع، وأقرت لجنة دولية هذا التصميم في ديسمبر 1954 بعد مراجعته، وتم وضع مواصفات وشروط تنفيذ هذا السد المائي.

سعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى تحويل فكرة إنشاء السد إلى “حلم قومي” يستحق تجنيد كل الطاقات والخبرات لوضعه موضع التنفيذ، وكان "السد العالي" حاضرا على جدول أعمال عبد الناصر في مناقشاته واجتماعاته مع كل المسئولين عربا وأجانب.

وبدأ عبد الناصر البحث عن مصادر تمويل إنشاء السد، و"راح على البنك اللي بيساعد ويدي"، وعرض على البنك الدولي للإنشاء والتعمير تمويل بناء السد، وأصدر البنك تقريرا نشره في يونيو 1955، أكد فيه سلامة المشروع، كما ورد بهذا التقرير اعتماد مصر لـ 8 ملايين دولار؛ لتنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع، وتشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية، ومساكن للعاملين في الموقع.

في 16ديسمبر 1955، وبعد سلسلة من الزيارات الدولية قام بها الدكتور عبدالمنعم القيسوني وزير المالية والتجارة آنذاك، أجرى خلالها العديد من المفاوضات، التي أسفرت عن اتفاق -من حيث المبدأ- أعلنته الخارجية الأمريكية وقتها، بأن يتولى كل من (البنك الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا)، تمويل مشروع السد العالي بتكلفة 1.3 مليار دولار.

وأعلنت الولايات المتحدة أن تمويل السد لن يتم دفعة واحدة، ولكن على مراحل ثلاث، الأولى: تقدم الولايات المتحدة مبلغ 56 مليون دولار، وتقدم بريطانيا مبلغ 14 مليون دولار، ثم تُقدم في المرحلة الثانية قروضا بقيمة 200 مليون دولار من البنك الدولي، بالإضافة إلى 130 مليون دولار كقرض من الولايات المتحدة الأمريكية، و80 مليون دولار قرضا من بريطانيا، على أن يتم سداد هذه القروض كأقساط سنوية بفائدة 5% على مدى 40 عاما.

وتتحمل مصر في المرحلة الثالثة باقي المبلغ بالعملة المحلية، يضاف في هذه المرحلة منحتان، الأولى من الولايات المتحدة بقيمة 20 مليون جنيه، والثانية من بريطانيا بقيمة 5 ملايين ونصف المليون جنيه.

لم يسر العرض (الأمريكي – الإنجليزي) لتمويل السد بسلاسة، بل قيدته شروط وضعتها الدولتان لتنفيذ الاتفاق، أولها هو تحويل مصر ثُلث دخلها القومي لمدة 10 سنوات لبناء السد العالي، وفرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، ووضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومي.

واشترطت أمريكا وبريطانيا أيضا، فرض رقابة على مصروفات الحكومة المصرية، وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية، وألا تقبل مصر قروضا أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، وكان آخر الاشتراطات، الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل تجاه المشروع المصري في حالات الضرورة.

أثارت شروط الدول "المانحة" غضب عبد الناصر، وأعاد أسلوب المراقبة الذي أرادت أمريكا وبريطانيا فرضه على مصر للأذهان الوضع السائد في عهد الخديو إسماعيل، وإنشاء قناة السويس، إلا أنه رغم الغضب استقبل عبد الناصر "يوجين بلاك" رئيس البنك الدولي في مصر.

ووافق عبد الناصر -بعد مفاوضات- على أن يكون للبنك الدولي حقوق "معقولة" في تفقد الإجراءات التي ستتخذها مصر للحد من التضخم، وعُقد على إثر ذلك اتفاق تم إعلانه في 8 فبراير 1956، يقدم البنك بموجبه قرضًا قيمته 200 مليون دولار، ويتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول شروطهما التي أعلناها لتقديم المساعدة.

وبعد 5 شهور من إعلان الاتفاق وتحديدا في ظهر يوم 19 يوليو 1956، أصدر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية “لينكولن وايت”، بيانا أعلن فيه سحب العرض الأمريكي لتمويل مشروع السد العالي.

وأبلغ الرئيس الأمريكي آنذاك "جون فوستر دالاس"، السفير المصري بالولايات المتحدة أحمد حسين، خلال إذاعة البيان، أن الولايات المتحدة لن تساعد في بناء السد العالي، وأن بلاده قررت سحب عرضها لأن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع.

وقال الرئيس الأمريكي أيضا، إن الولايات المتحدة تعتقد أن من يبني السد العالي سيكسب كراهية الشعب المصري؛ لأن الأعباء المترتبة عليه ستكون مدمرة وساحقة، وأنه ليس في وسع الشعب المصري أن يتحمل عبء تنفيذ هذا المشروع الضخم.

وتابع "دالاس": إننا في الولايات المتحدة الأمريكية لا نريد أن نكون مكروهين في مصر، وسوف نترك هذه المنفعة للاتحاد السوفيتي إذا كان يعتقد أنه يريد أن يبني السد العالي، رغم الاعتقاد أن الاتحاد السوفيتي لا يملك المصادر الكافية لإنجاز المشروع، ولو تعهد بتنفيذه فإن الدول التابعة له ستتمرد عليه، لأنهم يساعدون مصر ويرفضون تقديم المساعدات المماثلة التي تطلبها الدول التابعة له.

مع الضغط الغربي المستمر، والشروط المجحفة التي وضعتها تلك الدول لتمويل السد، ومع استمرار الرفض المصري للتدخلات الأجنبية في شأنها الداخلي، واصلت مصر بهدوء خططها التنموية، وردا على انسحاب تمويل السد العالي، قبلت مصر التحدي، وواصل خططها في البناء والنمو والتنمية، بالاعتماد على مواردها، وعلى ثقلها الدولي والإقليمي.

تحولت مصر للمعسكر الشرقي، ووقعت في 27 ديسمبر 1958، اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي لإقراضها 400 مليون روبل؛ لتنفيذ المرحلة الأولي من السد.

وبعد عام من توقيع الاتفاقية، وقعت مصر في ديسمبر 1959، اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان، وبدأ العمل في تنفيذ المرحلة الأولي من السد في 9 يناير 1960.

شملت المرحلة الأولى لإنشاء السد حفر قناة التحويل والأنفاق، وتبطينها بالخرسانة المسلحة، وصب أساسات محطة الكهرباء، وبناء السد حتي منسوب 130 مترا ، ثم وقعت مصر في 27 أغسطس 1960 على الاتفاقية الثانية مع الاتحاد السوفيتي سابقا؛ لإقراضها 500 مليون روبل إضافية لتمويل المرحلة الثانية من السد العالي.

وتمكنت مصر في منتصف مايو 1964 من تحويل مياه النهر إلي قناة التحويل والأنفاق، وإقفال مجري النيل، للبدء في تخزين المياه ببحيرة السد، التي كان لابد وأن يطلق عليها اسم من تحمل الضغوط الغربية، وكافح بسبل عدة لتخزين مياه النيل، فحملت البحيرة اسم "ناصر".

تضمنت المرحلة الثانية في بناء السد الاستمرار في بناء "الجسد" حتى نهايته، وإنهاء محطة الكهرباء وتركيب التوربينات وتشغيلها، وإقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء، لتنطلق شرارة توليد الكهرباء الأولى، التي أنارت بعض القرى المصرية في أكتوبر 1967.

احتضنت بحيرة "ناصر" أولى قطرات المياه القادمة من منابع النيل عام 1968، إيذانا ببدأ تخزين المياه، وفي منتصف يوليو 1970 اكتمل صرح المشروع؛ ليتم افتتاحه رسميا في 15 يناير 1971.

وبث التليفزيون المصري عبر شاشته، فرحة المصريين بالافتتاح الرسمي للسد العالي، الذي بلغت تكلفته 400 مليون جنيه حينها، ولو أرادت مصر بناءه اليوم سيتكلف حوالي 20 مليار جنيه.

تم بناء السد من رخام الجرانيت والرمال والطمي، تتوسطه طبقة صماء من الطين الأسواني، ليغلق مجرى النهر على مسافة حوالي 7 كيلومترات، يحول خلالها مجرى المياه إلى قناة يتوسطها 6 أنفاق متصلة في نهايتها بمحطة كهرباء مزودة بـ 12 توربينا.

وتبلغ سعة بحيرة ناصر 164 مليار متر مكعب، منها 30 مليارمتر مكعب لاستيعاب الطمي بعد استمرار رسوبه لعدة قرون، و37 مليار متر مكعب لمواجهة الفيضانات العالية، و97 مليار متر مكعب تمثل السعة الحية للخزان، تضمن تصرفاً سنوياً ثابتاً مقداره 84 مليار متر مكعب يخص مصر منها 55.5 مليار متر مكعب، و 18،5 مليار متر مكعب للسودان، والباقي 10 مليارات متر مكعب تُفقد من حوض الخزان بالتبخر والتسرب.

ويصل عرض مجرى النهر عند موقع السد 205 أمتار، وأقصى ارتفاع للسد 111 متراً، وعرض قاعدة السد 980 متراً، وعرض الطريق فوق السد 40 متراً.

بينما يبلغ طول البحيرة 500 كيلومتر، ومتوسط عرضها يصل إلى 11.8 كيلومتر، وتبلغ مساحة سطح البحيرة 5900 كيلومتر مربع، توفر سعة تخزين للمياه قدرها 164 مليار متر مكعب عند حدودها القصوى.

وبالنسبة لمحطة توليد كهرباء السد العالي، فيبلغ مجموع القوة المركبة 2.1 مليون كيلو وات، تنتج من 12 توربينا، بقوة 175000 كيلو وات لكل وحدة.

ويبقى السد العالي على مدار 57 عاما، شاهدا على "قصة كفاح" المصريين، الذين واجهوا الصعاب، وساروا في دروب التنمية والازدهار، رافضين الضغوط، وأن تنحني جباههم لغير لله، لتتعالى أصواتهم في النهاية بنغمات النصر، مرددين: "قلنا هانبني وادينا بانينا السد العالي".



كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة