Close ad

يوسف الشاروني وعفوية السرد في رواية "الغرق"

24-1-2017 | 14:01
يوسف الشاروني وعفوية السرد في رواية الغرقيوسف الشاروني
أحمد فضل شبلول

أصبحت حوادث وقوع الطائرات، وغرق السفن والعبَّارات، وخروج القطارات عن قضبانها وحرائقها، وحوادث السير، التي يروح ضحيتَها عشراتُ الآلاف من البشر، ظاهرة لافتة للانتباه، بخاصة في ظل تقدم العلم والتكنولوجيا الذي نراه يقف عاجزًا أحيانا عن منع مثل هذه الحوادث من الوقوع، وأحيانا أخرى يقف حائرا عن تفسير الظاهرة.

موضوعات مقترحة


قد يكون الإهمال البشري الجسيم سببًا من الأسباب، وقد يكون الجهل واللامبالاة وسوء التقدير، وعدم اتباع تعاليم الصيانة الدورية للأجهزة والمعدات، أو عطب مفاجئ يصيب تلك الأجهزة الملاحية، أو الحمولة الزائدة للطائرة أو السفينة أو العبَّارة أو القطار.
أسباب كثيرة جدا من الممكن أن نُرجع لها وقوع الحادث، ولكن في النهاية الموت واحد (تعددت الأسباب والموت واحد).


لن نرجح وسيلة على أخرى، ونقول إن صعود الطائرات آمن من اعتلاء السفن، أو أن ركوب القطارات هو الأفضل، فالموت عندما يأتي لا يفرق بين وسيلة وأخرى، ولا نستطيع أن نرد الأمر في النهاية إلا إلى قضاء الله وقدره.
ولا نرجح وقتا زمنيا على آخر، فبالتأكيد كانت هناك حوادث غرق مأساوية أثناء إبحار كريستوفر كولومبس (1451 ـ 1506) في المحيط الأطلسي ليكتشف الأرض الجديدة، على سبيل المثال، مثلها مثل حوادث الغرق المأساوية في نهاية القرن العشرين لبعض السفن والعبارات التي سنحاول التوقف عند بعضها هنا.


ولعلنا نتذكر غرق السفينة "بياتريس" التي كانت تحمل تابوت الملك خفرع لنقله من مصر إلى إنجلترا لإجراء بعض الدراسات والأبحاث العلمية، لكنَّ حادثا غامضا تعرضت له أمام مدينة "قرطاجنة" التاريخية عام 1838 طاح بآمال العلماء وقتها. ونتذكر أيضا غرق السفينة "تايتنك" في 15 أبريل/نيسان عام 1912، وراح ضحيتها 1523 شخصا، والتي تحولت قصة غرقها إلى فيلم شهير.


وتداولت المحاكم المصرية ملفات غرق العبارة "السلام 98" في البحر الأحمر أثناء عودتها بحجاح بيت الله الحرام في 3/2/2006، وراح ضحية الحادث 1033 حاجا مصريا.
وقبل ذلك كانت هناك حادثة العبارة المصرية سالم اكسبريس في البحر نفسه مساء السبت 14/12/1991. وغيرها وغيرها في العصر الحديث.
وإلى جانب ذلك هناك حوادث الغرق التي مسرحها البحر المتوسط حيث يعمد بعض الشباب المصري وغير المصري إلى محاولة التسلل إلى السواحل الإيطالية في محاولة لتحسين ظروف معيشتهم والحصول على فرصة عمل أفضل في البلاد الأوروبية، فيتسللون من الحدود المصرية ويدخلون الأراضي الليبية أو التونسية وهناك يجدون سماسرة التهريب إلى السواحل الأوروبية، وفي الطريق يغرق العشرات وسط ظروف إبحار غير ملائمة، أو حمولة زائدة على اللنشات المطاطية أو السفن غير صالحة للاستخدام أو الإبحار، أو غير ذلك من الأسباب.


ولم تتخلَ الأعمال الأدبية والإبداعية عن رصد تلك الظاهرة الإنسانية ومتابعتها، والكتابة عنها، ومن الأعمال التي رصدت تلك الظاهرة وتعاملت مع ظاهرة الغرق: رواية "الغرق" للكاتب الكبير الراحل يوسف الشاروني، وراوية "العاصفة" لخالد خليل الصيحي، ورواية "إيطاليا أو الغرق" للكاتب المبدع السعيد أحمد نجم، ورواية "بحر الروم" لأيمن زهري.


هذه الأعمال الأربعة اثنتان منها تحدثتا عن غرق السفينة "سالم اكسبريس" والتي يسميها الشاروني في روايته أو تحقيقه الروائي "المحروسة" في البحر الأحمر، واثنتان تحدثتا وصورتا غرق الشباب المصري وجنسيات أخرى في مياه البحر المتوسط بعد محاولة لتسلل غير مشروع إلى الأراضي الإيطالية، وهما: بحر الروم، وإيطاليا أو الغرق.


صدرت رواية "الغرق" ليوسف الشاروني (148 صفحة) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006 وكتب على غلافها "تحقيق روائي" وهي تسمية ربما تكون جديدة على هذا النوع من الكتابة، حيث حصد الكاتب قصاصات من الجرائد والمجلات التي تناولت حدث غرق العبارة خلال 7 دقائق استقرت فيها على عمق 32 مترا تحت سطح البحر الأحمر، ليلة الجمعة 14/12/1991، أثناء عودتها من ميناء جدة إلى ميناء سفاجا ثم ميناء السويس، لتأخذ معها 574 راكبا بمن فيهم قائد السفينة وغالبية طاقمها (بعضهم أمكن التعرف عليه، والبعض الآخر كان جثثا مجهولة) وكتبت النجاة لعدد 180 راكبا فقط.


وكان أول من كتب عن تلك الحادثة الجلل هو الكاتب مصطفى أمين في "آخر ساعة" يوم 16/12/1991، ثم توالت الكتابات والتعليقات والمتابعات الصحفية والإعلامية ليختار منها الشاروني 35 متابعة صحفية في تحقيقه الروائي.
وإلى جانب ذلك هناك الشهادات والاعترافات التي أدلى بها الناجون من الحادث (شهود العيان) أحدهم قال "سيدة غارقة كانت تطفو بجانبي على المياه، تحتضن اثنان من عيالها وطفل ثالث كان على كتفها. بكيت لأني لا أستطيع أن أعمل لهم شيئا."
أو شهادات أقرباء المتوفيين والمفقودين، بمن فيهم زوجة قبطان السفينة كريم كاتو، وشقيقه، وكلها شهادات إنسانية بالغة التأثير.


ومن بين المتوفيين 50 رجلا و23 مفقودا من قرية واحدة هي قرية الجديان التي تبعد 70 كيلومترا جنوب مدينة سوهاج، وعرفت بعد ذلك بقرية الأحزان، استطاع الشاروني أن ينفذ إليها ويرصد ما قاله أهل تلك القرية التي دب فيها الموت عقب الحادث، حيث "حالة من الوجوم والسكون تسكن الوجوه، ومن الغريب أن أحدا لا يجهش بالبكاء وإنما هناك دموع متجمدة، فالدموع ليست هي الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الحزن، هناك ما هو أعنف وأكثر حرقة."
وقد شمل التحقيق الروائي الذي أجراه الشاروني، حالة العبارة قبل إبحارها من جدة في طريقها إلى سفاجا فالسويس، والسؤال الذي طرح بعد مرور 15 يوما على الكارثة: هل ننتشل العبارة ونعوِّمها أم نتركها في مرقدها؟


لا ينقل لنا يوسف الشاروني الأحداث الفاجعة فور وقوعها وما تلاه من ردود أفعال وإجراءات حكومية وأهلية سواء في مصر أو السعودية فحسب، ولكنه يعود بنا إلى قبل عشرين شهرا من وقوع الحادث، حيث كانت العبارة تعبر بسلام وتجوب مياه البحر الأحمر في دربة وأمان واطمئنان، ثم فجأة يحدث ما يحدث.


كما يورد روايات متعددة تفسر الغرق، بعضها متناقض مع بعضه الآخر، لأن الحقيقة التي لا يعلمها إلا الله والقبطان الراحل، غائبة عن الجميع، فهناك رواية محافظ البحر الأحمر، ورواية إحدى ممرضات السفينة التي كتب لها النجاة، ورواية ركاب ناجين آخرين، كل يروى من وجهة نظر معينة، ورواية أحد الصحفيين المتابعين، ورواية رئيس مدينة سفاجا، ورواية ضابط بحري متقاعد رفض ذكر اسمه، ورواية ضابط ثاني الباخرة، وغيرهم.
ويعرج الشاروني إلى الحديث عن الشعاب المرجانية في البحر الأحمر والتي تمثل خطورة مفاجئة على السفن التي تدخل فيها، مثل أن تكون قائدا لسيارة في شارع ما .. وتسير بسرعة وفجأة تجد أمامك عمارة ضخمة تصطدم بها.


لقد تركت حادثة غرق العبارة آثارها البشرية ليس فقط على المتوفيين والناجين ولكن أيضا على أقارب الضحايا أبرزها الخلاف على الجثث، ومنها عملية تزوير جواز السفر التي قام بها أحد الأشخاص المتوفيين حيث لجأ قبل سفره للعمل بالسعودية إلى الاستيلاء على جواز سفر قريب له، وخلع صورة قريبه، ووضع صورته مكانها وسافر دون أن يكتشف أمره، وعند عودته لقضاء أجازته غرق مع الغارقين، وتم الحصول على جواز سفره الذي يحمل اسم قريبه الذي أصبح في نظر القانون ميتا، لحين يثبت عكس ذلك، وغير ذلك من مآسٍ بشرية خلفتها حادثة الغرق.


وفي نهاية تحقيقه الروائي الإنساني ذي الأسلوب الأدبي الراقي يخرج يوسف الشاروني بست حقائق هي:
الحقيقة الأولى: كما أن هناك طائرات تسقط، وسيارات تنقلب، وقطارات تخرج عن قضبانها وتتحطم، فإن سفنا تغرق.
الحقيقة الثانية: إذا كان هناك مليون ثغرة تغرق بسببها السفن، فإن سدها جميعا لن يحول مستقبلا دون تكرارها، لأن قضاء الله وقدره سوف يبقيان دائما ثغرة لا يمكن لبشر سدها.
الحقيقة الثالثة: ليس هناك في الدنيا سفينة، مهما كانت إمكاناتها لا تغرق، والسفينة "تايتنك" خير دليل على ذلك، فالبحر أقوى من كل سفينة.
الحقيقة الرابعة: كارثة المحروسة هي أكبر ثلاث فواجع بحرية مصرية، في سجل الكوارث البحرية العالمية، بحكم عدد ضحاياها، قبلها فاجعتا "باترا" والسفينة النيلية (10 رمضان).
الحقيقة الخامسة: إن مأساة غرق العبارة المحروسة هي التراجيديا رقم (102) في قائمة أكبر الفواجع البحرية العالمية، منذ عام 1854 وحتى الآن، رغم أن السفن التي غرقت منذ ذلك الوقت بالآلاف.
الحقيقة السادسة: كل التحقيقات التي ستجرى ـ مع عظيم الاحترام لكل الخبراء ـ لن تكتشف الحقيقة الغارقة 100%، فالوحيد الذي يعلم الحقيقة هو الله أولا، والربان الراحل ثانيا، ثم لا أحد بعد ذلك، وكل ما دون الحقيقة الكاملة مجرد اجتهادات لا ترقى إلى مستوى الحقيقة التي يتم على أساسها العقاب والثواب.
***
وبعيدا عن مأساة غرق العبارة واستعراض الكاتب لكل أو معظم ملابسات غرفها، وما تناقلته وسائل الإعلام حولها، فإننا نتوقف أمام مصطلح "تحقيق روائي" الذي وضعه يوسف الشاروني على غلاف الكتاب، ونتساءل: لماذا لم يطلق على الكتاب (رواية) مثلما وضع خالد الصيحي على غلاف كتابه "العاصفة" مسمى رواية بجوار اسمه؟
في حقيقة الأمر نحن أمام تصنيف جديد للكتب نحته الشاروني وأطلقه على كتابه "الغرق" وهو "تحقيق روائي"، وعلى مسمى ينطبق على الحالة التي يكتب من خلالها الشاروني عمله، فهو ـ باعتباره السارد ـ يرصد الأمر من الخارج، ويستدعي شخصيات حقيقية لتروي ما عندها وتقدم شهاداتها على الحادث التي اتضح تضاربها مع بعضها البعض في بعض الأحيان، وخاصة خلال الدقائق السبع للكارثة.


وأعتقد أنه لا مجال للخيال الذي تتميز به الأعمال الروائية، ولكن السارد يذكر أحداثا ووقائع بعينها من خلال الشخصيات ومن خلال قصاصات الصحف، ومن هنا ظهرت فكرة "التحقيق"، وبما أن هناك خطا واحدا يجمع تلك الشخصيات المندمجة مع الحادث فقد ظهرت فكرة "الرواية" التي يرويها الأشخاص الذين تم استدعاؤهم في التحقيق، ومن هنا جاء ذلك العنوان المركب "تحقيق روائي".


وفي هذا يقول الكاتب محمد جبريل في مقدمته للكتاب "ورغم اتجاه الرواية إلى ما يصح تسميته (التحقيق الروائي) فإن تفاصيل الدقائق السبع للكارثة، وما بعدها، تبين عن أستاذية الشاروني. هذه دقائق تنبض بأجمل ما في الفن الروائي من خصائص لغوية وفنية وسردية، حتى الحوار، قصير، سريع، متوتر، ويضيف إلى تنامي الحدث، دون جهارة، أو افتعال، أو استعارة أصوات غير حقيقية."
ويضيف جبريل أن "الرواية تبين عن عفوية في السرد، بالإضافة إلى التعبير عن نظرة الفنان البانورامية للإنسان والمجتمع والعالم، إنها محاولة ترفض التأطير المسبق".

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة