لو ظل بيننا لكان اليوم على مشارف المائة، فجمال عبدالناصر ولد في 15 يناير من عام 1918، ورغم أنه رحل دون أن يتجاوز عامه الثالث والخمسين، إلا أن تجربة الرجل ملأت الدنيا وشغلت الناس في حياته وبعد رحيله، وأغلب الظن سيستمر الجدل حوله لعقود أخرى.
الكل يعرف أن الرجل تعرض، ومايزال، إلى حملات تشهير منتظمة من قبل أعدائه في الداخل والخارج، رغم رحيله قبل 47 سنة تقريبًا (28 سبتمبر 1970)، والتهمة الرئيسة التي توجه إليه تصفه بأنه كان طاغية حكم مصر بالحديد والنار وحولها إلى سجن كبير، وهي تهمة ظالمة تخفي في ثناياها تدمير كل من يحاول أن ينهض بهذا الشعب، ورغم إقراري بأن عبدالناصر لم يكن ملاكا، وأن نظامه ارتكب حماقات في السياسة والاقتصاد، غير أنني أعتقد أن مصر شهدت في ذلك العهد نقلة نوعية كبرى في طريق التقدم والتحضر لم تتحقق لها طوال قرون عديدة.
لن أتحدث عن الجوانب السياسية، ولن أشغل وقتك بالكلام عن التعليم والصناعة في عهد الرجل، لكني سأتذكر معك الإنتاج الفني والأدبي في ذلك الزمن، وأخبرك بأنه من المستحيل على شعب أن ينتج إبداعًا متميزًا في زمن ملوث بحكم ديكتاتور، ومن المحال أن ينجز شعب هذا الحجم الهائل من الإبداعات في المجالات كافة، بينما هو يعاني من البطش والقهر والرعب من الحاكم.
فهل يعقل أن يقدم المصريون نحو15 ألف أغنية عاطفية جميلة، وهم خانعون ومرتعبون؟ أجل... تركت لنا الكوكبة المعتبرة من المطربين والملحنين والشعراء نحو 15 ألف أغنية عاطفية ووصفية ترنموا بها في زمن عبدالناصر (الملعون)، ولن أذكر لك الأغاني الوطنية، حتى لا يقول أحد إنهم صنعوها بالأمر.
من فضلك... عُد بذاكرتك للخلف قليلا، واستعد أغنيات عبدالحليم وشادية ونجاة وفايزة أحمد وفريد الأطرش وصباح ووردة وشهرزاد وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمدعبد المطلب ومحمد قنديل ومحمد رشدي وعبداللطيف التلباني وماهر العطار ومحمد فوزي وهدى سلطان ومحرم فؤاد، وطبعا لا تنس أم كلثوم وعبدالوهاب، فقد أسعدونا بأعمالهما الجميلة في زمن ناصر، وأرجو أن تلاحظ أنني لم أذكر ليلى مراد، لأن معظم إنتاجها كان قبل يوليو 1952.
إن هؤلاء المطربين العظام تركوا لنا كنزا من الأغنيات الراقية والجميلة، وقد شاركهم نخبة من الملحنين والشعراء نذكر منهم كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبدالعظيم عبد الحق ومرسي جميل عزيز وعبدالفتاح مصطفى وجليل البنداري وعبدالرحمن الأبنودي وإسماعيل الحبروك وغيرهم.
وإذا تركنا الموسيقى والطرب، وانتقلنا إلى عالم السينما، نكتشف أن المصريين أنتجوا نحو 700 فيلم في عهد الرجل الذين يلعنونه اليوم، علمًا بأن كل ما عرض على الشاشة الفضية طوال القرن العشرين لم يتجاوز 3 آلاف فيلم، أي أن صناع السينما حققوا ربع إنتاجهم في 18 سنة فقط هي فترة حكم الزعيم.
طبعًا لا يغيب عن بالك أن سنوات الخمسينيات والستينيات شهدت إنتاج أهم الأفلام في تاريخنا السينمائي، تلك التي أسهمت في تشكيل ذائقتنا الفنية والسمو بها، ولعل معظم كبار النجوم الذين نطلق عليهم (نجوم الزمن الجميل) ظهروا وتألقوا في عهد عبدالناصر، ولنتذكر معا النجمات فاتن حمامة وشادية وسميرة أحمد وهند رستم ومريم فخر الدين ولبنى عبدالعزيز وسعاد حسني وبرلنتي عبد الحميد، والنجوم كمال الشناوي وفريد شوقي وشكري سرحان ومحمود مرسي ورشدي أباظة وعمر الشريف وأحمد رمزي وأحمد مظهر وعبدالمنعم إيراهيم وصلاح ذوالفقار وحسن يوسف، لاحظ أنني لم أذكر محسن سرحان وإسماعيل ياسين وأنور وجدي وعماد حمدي ويحيى شاهين ومحمود ذوالفقارلأنهم كانوا نجومًا قبل يوليو 1952 بسنوات طويلة.
أما إذا انتقلنا إلى دنيا المسرح فسنذكر الكتاب المتفردين في تاريخنا المسرحي أمثال نعمان عاشور والفريد فرج وميخائيل رومان ومحمود دياب وسعدالدين وهبة وغيرهم، وكذلك سنتحدث عن المخرجين الأفذاذ أمثال سعد أردش وكرم مطاوع وحمدي غيث وكمال ياسين وعبدالرحيم الزرقاني وعبدالمنعم مدبولي، أما نجوم المسرح في خمسينيات القرن العشرين وستينياته فخذ عندك سميحة أيوب وسناء جميل ونعيمة وصفي وسهير المرشدي وسهير البابلي وليلى طاهر وتوفيق الدقن وفؤاد المهندس ومحمد عوض وأمين الهنيدي وأبو بكر عزت وإبراهيم سعفان وعبدالسلام محمد وعشرات غيرهم.
يبقى مجال الأدب ونجومه الذين ظهروا في زمن عبد الناصر، وتلك قصة أخرى، لكن قبل أن أختم أسمع أحد الكارهين لناصر يقول... إن هذه الإنجازات مدهشة بحق، لكن من أبدعها هم الذين ترعرعوا في العهد الملكي بعد ثورة 1919، وعبد الناصر لم يقدم لهم أي شيء، ولم يسهم في (تربيتهم)، فلا تنسبوا المجد إلى ديكتاتور!
لهذا الكاره أقول... صحيح أن ثورة 1919 فتحت الباب واسعًا أمام المصريين للتعلم والإبداع والانفتاح على حضارة الغرب التي سبقتنا، لكن يحسب لعبد الناصر أنه لم يقف ضد الإبداع، ولم يمنع الفنانون من ممارسة مهامهم الإبداعية الجميلة، ولو كان المجتمع في عهده يرزح تحت نير الظلم والقهر والاستبداد ما استطاع الفنانون أن يغنوا ويمثلوا ويكتبوا أعمالا خالدة صارت كنز المصريين في الأزمان الرديئة التي أعقبت وفاة الرجل... ومازالت بكل أسف.
باختصار... مجتمع عفي آمن لا يشعر أفراده بظلم ويعملون ويحلمون بمستقبل أفضل،سينتج هذا المجتمع أعمالا إبداعية متفردة تعيش من قرن إلى آخر، وهو ما تحقق في زمن عبد الناصر.