يذهب "أمبرتو إيكو" إلى أن المتلقي ممول، لأنه المعني في الخطاب، ومن هذا المنطلق اشتغل المبدعون على توظيف الصورة الناضجة، لتسويق مشاريعهم الأدبية، مشكلين منظومة تحمل طابع الكتابة الفنية، ومنهم الشاعر عزمي عبد الوهاب الذي توج تجربته بمجموعة عنوانها "يمشي في العاصفة" ومن العنوان الذي هو مفتاح الدخول إلى عالم العمل، لكشف مدلولاته، نجد الشاعر يضعنا أمام لغز، حيث لم يحدد هوية المقصود، تاركا للذائقة العامة كشف المسكوت عنه.
موضوعات مقترحة
يقول في أحد نصوص المجموعة: "الأشْجارُ تَكرهُ الوقوفَ، العَصافيرُ قَتلَها الصَّمتُ، القِطَاراتُ مَاتت انتِظارا فِي المَحطَّاتِ، الهَواتفُ لا تنقلُ الكلامَ بَينَ المُحبِّينَ، المُحبُّونَ حَبسوا البَهْجةَ فِي عُيونِهم، المُراهِقونَ بَحَثوا عَن حَديقةٍ مُناسبةٍ للغَرامِ وتَجمَّدوا فِي مَقاعدِهم، تَركُوا بينَهُم مَسافاتٍ، يُجرِّبُ فِيهَا الهَواءُ سَطْوتَه، البَردُ أكلَ أطَرافَ الرِّجالِ، النساءُ اسْتَسلَمنَ فِي مَعركةٍ غَيرِ مُتكَافئةٍ مع الوحدة".
عند تفكيك هذا النص والدخول لعالمه، نجد صورا متعددة، تحلينا إلى جمالية الإبداع عند الشاعر، حيث اشتغل على ثقافة الأماكن، بوصفه "الأشجار التي ملت الوقوف، والعصافير التي قتلها الصمت" فهو يخرج الأشياء من ملكوت الجماد إلى فضاءات الحرية، وهذا ما عمل به كل من "باشلار" و"فوكو".
تعد هذه الابتكارات صورة تثير الدهشة، لما حملته من تعبير ودلالات، توضح قدرة الشاعر على صناعة الصور، وكما هو معروف فإن الشاعر يصل إلى مرحلة لا يستطيع أن يصل إليها الإنسان العادي، ولهذا كان الإغريق يعتقدون أن الإله تدخل في أجساد الشعراء، وقال سقراط إن الشاعر كائن خرافي، و "عزمي عبد الوهاب" يقول هنا: "كَثيرًا مَا أُطَالِعُ وُجوهَ مَوْتَايَ فِي الأَحْلامِ: جِلْبَابُ أبِي عَلى السُّورِ، وأخِي يَقُودُني إليهِ فِي العَتْمَةِ، والنِّساءُ اللواتِي أَحْبَبتُهنَّ، وَلازلنَ عَلى قَيْدِ الحَياةِ، يَأتينَ عَلى هَيْئةِ مُوميَاواتٍ، انتهكَ اللُّصوصُ أَسْرارَها، أولئكَ المَوْتَى جِراحُهم طَازجةٌ، يَسيلُ منها الدَّمُ والنَّدَى".
تقول الناقدة الفرنسية سوزان برنار إنَّ قصيدة النثر هي «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور...خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية» وهذا التعريف لبرنار أوجز قصيدة النثر، فبالفعل هي قطعة مضغوطة، لأنها تختزل الكثير في سياقاتها، وكما هي رغبة المؤلف في البناء خارجاً، أي تعبر عن مشاعره وأحاسيسه، وفي نص الشاعر عزمي عبد الوهاب نجده يحول عملية القبض على اللحظة، ويترجمها، ويظهر عنصر الخيال بالنص.
وقد وفق الشاعر بتوظيف الخيال بطريقة جيدة، وظل محافظا على بنية العمل، وربط بين نصه والخيال، وجعلنا نعيش معه لحظات تأمل، وعرفنا مدى براعته في المزج بين الضربات الخيالية ومنتجه الأدبي، فكانت كتابته أشبه بالواقعية المقنعة، حين صور: أنَا قَادِمٌ منَ المَوْتِ فَافْتحِ البَابَ، يا بيت حبيبتي، بَيتُ حَبيبتِي صَغيرٌ وجَميلٌ، تُنيرهُ ابتِسَامَةٌ خَفيفةٌ، وَيُشيعُ الدِّفءَ فِي أرْكَانِه قَميصٌ فَاجرٌ ونَافذةٌ مَفتوحةٌ عَلى القَمرِ، وحِينَ تَنامُ حَبيبتِي تَقُصُّ المَلائكةُ شَعْرَهَا النَّائمَ عَلى الوِسَادةِ فَتَحْدُثُ المعْجزةُ: وَجْهٌ مُسْتديرٌ كَزَهْرةِ العَبَّادِ" إنها دراما شعرية جسد بها الموقف، وأسلوب المحاكاة أشبه بالشعر الملحمي، الذي كان يسطره شعراء الإغريق في أساطيرهم مثل الشاعرة الإغريقية سافو والشاعر هوميروس، ونلحظ البناء النسقي في شعر عزمي عبد الوهاب، حيث وحدة الموضوع وتواصله بالسرد الشعري، كي يواصل فكرة منتجه كاملة الى القارئ الذي ينتهي إليه الخطاب: "افتَحي البابَ، جِئتُ إليكِ بالبحرِ، تَعبْتُ كَثيرا حَتّى أُحافظَ على أمْواجهِ، فَلا تضيعُ واحدةٌ مِنها في الطّريقِ، أنتِ لا تثقينَ فيّ مُنذُ أنْ عُدتُ إليْكِ بأسماكٍ مُلوّنةٍ في قَفصٍ زُجَاجيّ، أنا لم أغسل البحرَ من مُلوحتِه، هو يريدُ أنْ يَكُونَ عَذْبًا في شَفتيكِ، والرمالُ التي احتفَظَتْ بها قَدمَاي لم تكن إلا آثارَ خطواتكِ حافيةً عَلى الشّاطئ، حتّى لا تنتحرَ في أقدامِ أولئكَ المُؤقّتينَ، الذينَ لا يُحبّونَ البَحرَ لأسْبابٍ شَخصيّةٍ (يأخذُ السّفنَ بَعيدا، ويتركُ أضواءَ صفراءَ، تُثقلُ الذّاكرةَ بوهجها الخافتِ، فتنطفئُ كليلٍ مريضٍ) صور متعددة، جمعت في سياق اسمه النص، انتقالات وتحولات شعرية، تدل على قدرة الذات الشاعرة عند عزمي عبد الوهاب، الذي يوجه طرحه بحداثوية مشكلا عدة وظائف إبداعية، تعطي للمتلقي فسحة من التأمل في العمل المطروح، إنه يرسم صورته بانعكاس الانطباعية، حين يعبر: "أنا لم أغسل البحرَ من مُلوحتِه" ليصنع فكرة ناضجة.
-------
عدي العبادي
(كاتب من العراق)