ليس موعدنا اليوم الحديث عن ذكرى ميلاد الشاعر أبو القاسم الشابي، أو ذكرى وفاته، أو موعد تسليم جائزة عربية تونسية تحمل اسمه الكبير، ولكنه يوم محو تراث الشاعر العملاق، وقطع مسقط رأسه، وذلك بهدم البيت الذي عاش فيه سنوات من عمره القصير الذي لم يتجاوز خمسة وعشرين عاماً، (من قرية الشابية في لولاية توزر 24- فبراير 1909 - 9 أكتوبر 1934م (حيث أكدت السلطات السياسية والثقافية في مدينة توزر بالجريد التونسي غرب البلاد، وهي مسقط رأس الشاعر، أن البيت الذي هدم هو عبارة عن ورثة عائلية قديمة لآل الشابي، وتم بيع الأرض التي بني عليها، وقام المالك الجديد بهدم كل ما على الأرض التي اشتراها من الورثة، ليقيم عليها سوقاً تجارية فخمة!
موضوعات مقترحة
وهكذا نجد أن رأس المال يتغول على الثقافة.. يأكل الثقافة، ويحل محلها، تماماً مثل قصة "ليلى والذئب"، إذ وصلت ليلى إلى بيت جدتها، فوجدت أن الذئب قد أكلها، ونام مكانها.. نام في فراشها...وهكذا أكل رأسُ المالِ أبا القاسم الشابي، ونام في فراشه.
ومثلما أن الجنرالات لا قلوب لهم، فالتجار لا عواطف لهم، ولا ثقافة..ولهذا فهم لا يعرفون من هو أبو القاسم الشابي ..هم يعرفون القانون الذي يقول إن "الأرض وما عليها لصاحب الأرض." وأما هذا البيت التراثي العريق، فلا قيمة مادية له عندهم...هكذا يقولون..
ولا غرو فإن معظم أهل القرية التي ولد فيها شكسبير لا يعرفونه حتى الآن، ولم يقرأوا له مسرحية كاملة.
وإن أهل " بشرِّي"، قرية جبران خليل جبران لا يقيمون وزناً كبيراً لبيته، حيث دُفن في صومعته القديمة، التي عُرفت لاحقًاً باسم "متحف جبران". بصفته مخصصاً للتعريف بالفيلسوف والرسام والشاعر والكاتب العربي اللبناني جبران.
تأسس المتحف عام 1935 ويحتوي على 440 لوحة ورسومات ومخطوطات أصلية لجبران. كما يحتوي على أدوات مَحْرَفِهِ الذي استعمله خلال حياته في نيويورك. وكانت اخته قد اشترت المبنى بناء على وصيته ودفنته فيه، وذلك لقيمته الروحية القيمة وتمت توسعة المتحف في عامي 1975 و1995.
إذن ليس أبو القاسم الشابي وحده المقصود بهذا المحو التراثي من التاريخ الأدبي العربي، أو المقصود بالإزالة، فلقد حطموا قبله رأس أبي العلاء المعري العربي السوري ، في هذا الربيع العربي الذي يمطر علينا دماً نجده ينزُّ من أطرافنا..
والمدهش أن هذا لم يحصل في عهد الدكتاتورية التونسية الفارطة، ولكنه حصل في عهد تونس الثورة.. تونس الديمقراطية البرلمان، وديمقراطية الوزارة، تلك الديمقراطية التي تنازلت عن بيته التراثي الجميل..
ووزارة الثقافة التي تدعو التونسيين وغيرهم للمشاركة في حفلات ثقافية عديدة سنوياً تكلفها ملايين الدولارات، بخلت على الشابي بشراء أرضه بسعر بخس بالنسبة لتكاليف مؤتمراتهم، ولم تقم بترميم بنائه، وتشييد صرح ثقافي عظيم حوله، بدل السوق التجاري الذي سيحل محل من قال:
"إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر"
لم تحسب وزارة الثقافة التونسية أنها لو أنفقت على ترميم وتشييد صرح ثقافي في أرض الشابي، وأقامت عليه المهرجانات والحفلات الأدبية والشعرية والموسيقية والغنائية الوطنية، لحصد إيرادات مالية من الأعداد اللانهائية من الزوار والسياح الذين سيأتون على مدى الزمن إلى تونس لمشاهدة أشياء كثيرة، ومن أهمها هذا الصرح العظيم.. ولو استبدلت قيمة الدعوات الثقافية المدفوعة التكاليف لبعض المثقفين العرب لزيارة تونس، بتكاليف بناء هذا الصرح، لحصدت فوائد مالية سياحية ثقافية أكثر بكثير مما تعتقد..
وليس ما حصل مع بيت الشابي فريداً من نوعه، فلقد باعت (ماري) أرملة الروائي الأمريكي إيرنست همنجواي بيته في جزيرة (كي وست) الكاريبية، عام 1961 بثماية آلاف دولار، إذ لم تكن تعرف قيمة بيت زوجها، ولكن صديقته (بيرنس دكسون) التي اشترته، كانت تعرف قيمة صاحبه، فأسست فيه متحف همنجواي ...ويوم زرت هذا البيت المتحف شخصياً، كان عدد زواره في الساعة التي قضيتها هناك حوالي ثلاثمائة زائر، يدفع كل زائر 12 دولار رسم دخول، بينما دفعتُ مبلغ ستة دولارات فقط رسم دخول لزيارة بيت (الرئيس هاري ترومان) القريب منه كمتحف، والذي يسمى (البيت الأبيض الصغير)، والذي حكم الولايات المتحدة ثماني سنوات، وقام بسبعة أعمال خطيرة خلال رئاسته في الحرب العالمية الثانية وما بعدها، مثل إلقائه قنبلتي (هيروشيما وناجازاكي) على اليابان، وتنفيذ مشروع مارشال، والاعتراف بإسرائيل كدولة، وأشياء كثيرة من هذه الأفعال، التي لا وقت لبحثها، ومع ذلك كان عدد زواره لا يزيد على ستة أشخاص، في الوقت الذي قضيته هناك..وهذا يؤكد أن متحف الكاتب المرموق همنجواي يتفوق كثيراً على المتحف الذي يسمونه (البيت الأبيض الصغير.) بيت رئيس الدولة.
لو أن وزارة الثقافة التونسية تعرف الميزات المالية والمعنوية لشراء البيت وترميمه وتطويره ليكون متحفاً للشابي ولباقي زملائه المبدعين التونسيين لاستفادت أكثر من توقعاتها للكسب - طويل الأمد - من نشاطات الثقافة السياحية التي تقيمها هذه السنوات.
ومثالاً على ذلك تقوم رابطة الكتاب الأردنيين بترميم بيت الروائي العربي الأردني الشهير غالب هلسا، في بلدته مأدبا، بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية، وتعتبر الحج الثقافي- إذا جاز التعبير- لبيته واجباً ثقافيا ووطنياً، حيث أن كل المثقفين العرب وخاصة في مصر والعراق وسوريا وفلسطين والأردن -حيث أقام وكتب- يحبونه ويقدرونه حق تقدير..
يقول امرؤ القيس الذي يداهمني في كل صفحة أكتبها في معلقته الشهيرة:
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حب فلفل.
أي أنه لم يبق مكان المحبوبة الراحلة هي وقبيلتها سوى بعر الماعز... واليوم نجد أنه لم يبق مكان مفكرينا وكتابنا العظماء سوى بعر الآرام.. لم يبق مكان أبو القاسم الشابي غير بعر الآرام. أو كما قال لي وزير الثقافة الأردني الأسبق جمعة حماد ذات يوم: "لم تبق غير المتردية والنطيحة وما أكل السبع".
-----
صبحي فحماوي
(روائي وكاتب من الأردن)