وقف الإمام على المنبر ممسكًا ورقة بيضاء من غير سوء، ليلقي إلينا بآية جديدة من آيات التخلف في بلادنا، دون سحر أو شعوذة، لكنها آية تتشح بالدين، وتلتحف بمحاربة التطرف، وتدعي تحصنها بالمصلحة العامة، وتأتي إلينا بخبر غير يقين.
لا شيء يستحق وصفه بالعبث هذه الأيام أكثر من قرار السيد "ناظر مدرسة الأخلاق الحميدة" المعروفة بوزارة الأوقاف الذي عممه (وزعه وليس ألبسه العمة) على مساجد مصر التي كانت محروسة، والذي يُلزم فيه أئمة المساجد، بقراءة الخطبة من ورقة معدة سلفًا بطريقة مركزية، في مقر الوزارة.
يتصور الدكتور مختار جمعة ولي الأوقاف المصرية، أنه بقراره غير الحكيم يحارب التطرف ويسد منافذ الإرهاب، وهو لا يعلم أنه بقراره يغذي التطرف ويشجع سدنته، على التمادي، ويمنح وشائج الحياة، لأفكار المتعصبين الذين يقنعون بها شبابًا كثيرين في القرى والنجوع، لا يسمع عنهم وزير الأوقاف شيئًا، وهو جالس في مقعده الوثير، وغرفته المكيفة، بديوان الوزارة.
يظن متخذ القرار أن التطرف سببه منابر المساجد، وليس منابر الإعلام، الذي يحترف النفاق والتطبيل، ويعتقد سيادته أن المشكلة في المنابر مع أن الحل فيها.
ينهي الوزير بقراره أي داعٍ لأن تكون هناك موهبة اسمها الخطابة، إذ أنها ستكون عبئًا على صاحبها، وعليه وأدها في مهدها دون أن يسمح لها بالنمو والازدهار، إذ إنها ستكون مدعاة للسخرية؛ لأن على صاحبها أن يطوي مهارته ويدسها في جيبه، ويخرج ورقة الوزير ليقرأ منها ما تيسر من عقل الوزارة وقلمها.
يرى السيد الوزير أن أئمة المساجد، مجرد ببغاوات يكررون فقط ما يلفظه لسانه، وأنه بهذا فقط سيكون عليهم رقيبًا وعتيدًا، وأن المنابر لن تتسرب إليها أي أفكار متطرفة، مع أن المنابر -وهذا حالها- هي أكبر دعاية للتطرف، وللترويج أن البلد مرعوبة، وتخاف من شرذمة من المتطرفين الذين يعتلون المنابر، هنا أو هناك.
وبدلًا من أن تكون يد الوزير ثقيلة في استبعاد من يستغلون المنابر للدعاية السياسية أو الأيدولوجية، فقد اختار الأيدي الناعمة التي تمتد بالورق المكتوب، لتمنحه لرجال كان مفترضا أن يكونوا دعاة للدين لا قراء لنشرة الوزارة الأسبوعية.
لماذا يقرأ أي إمام أو خطيب في كتب الفقه والتفسير، ولماذا يثقف نفسه؟ إذا كان الأمر في النهاية سيجعله كمن يقرأ عناوين الأخبار في طابور الصباح بالمدارس.
قبل سنوات خلال تسعينيات القرن الماضي، وفي مسجد صغير بمدينة منيا القمح بمحافظة الشرقية وقعت حادثة كوميدية، بسبب خطيب الجمعة الذي جاء للمسجد بديلًا للإمام الأصلي نتيجة ظرف طارئ، واختار الإمام البديل موضوع "شرب الخمر".
وكان الأستاذ جلال الباشا -مدرس الفلسفة المعروف- قد جاء متأخرًا وجلس خارج المسجد تحت شمس الصيف الحارقة، وكان بدينًا ممتلئ الجسد، فأخذ يكافح لتجفيف عرقه، بينما الإمام يزيد ويعيد في حرمة شرب الخمر، وعدم قرب الصلاة في حالة السكر.
مرت أكثر من ساعة والإمام يصيح ويرغي ويزبد ويتوعد شاربي الخمر بجهنم وبئس المصير، فيما ابتلت ملابس الأستاذ جلال وغرق في العرق، حتى فاض به الكيل وطفح، فهب واقفًا وشد حزامه المتدلي على وسطه، واخترق المصلين ودخل المسجد، وعبر الصفوف حتى اقترب من المنبر.
صاح الأستاذ جلال الباشا في الإمام "يا مولانا حرام عليك إحنا هنموت من الشمس، وانت قاعد تتكلم في الخمرة.. هي الناس معاها فلوس تشرب شاي لما انت بتكلمهم في الخمرة.. هو انت فاكر نفسك بتخطب في شارع الهرم".. احمر وجه الخطيب خجلًا من الموقف والمنطق أيضًا، وأنهى الخطبة مسرعًا بالدعاء، ثم أقام الصلاة.
لو كانت الخطبة الموحدة عن الميسر ولعب القمار، في بلاد لا تلعب غير "السيجة والحجلة" فالأغلب أن عشرات من الأئمة سيخرجون مطرودين من المساجد، أما لو كانت عن حرمة السوق السوداء للدولار في قرى لا تعرف أصلًا ورقة المائة جنيه، فالأرجح أن الأئمة سيصلبون على المنابر، أما لو كانت عن فقه الحيض والنفاس في قرى الخريجين الصحراوية المليئة بالرجال، فمن المحتمل أن نعرف ظاهرة الأئمة الذين ينالون الشهادة على أيدي المصلين.
على وزير الأوقاف أن يعيد الببغاوات إلى أقفاص الطيور، فالمنابر لم تخلق لهم، وإنما للأئمة الخطباء الذين يملكون فصاحة اللسان وسحر البيان، والذين يزنون الكلم ويقدرون المعاني، ويعرفون الفرق بين مسجد في حي جاردن سيتي، وآخر بجوار مصنع سكر أبوقرقاص.